روسيا وإيران في مهب رياح استراتيجية أوباما

ليس من الواضح حتى اللحظة إذا كان السلوك السياسي للرئيس باراك أوباما تجاه سورية هو نتيجة لإستراتيجية مضبوطة أم تنويعة من التكتيكات المقصودة، أم أن الجزء الطافي على السطح ليس أكثر من جملة من ردّات الفعل المدروسة بهدف إشغال الخصوم بعمليات تقدير وتقييم إستنزافية، فيما الإستراتيجية تعمل في مكان آخر.

في كل الأحوال لا يبدو أوباما مطالباً بتوضيح خططه إلى درجة الشفافية وكشف مكونات إستراتيجيته وطبيعة الإجراءات التي يبتغي من خلالها تنفيذ مندرجات تلك الإستراتيجية، وهو ليس مطالباً بفعل ذلك، ليس كنوع من إجراء أمني يلزمه إتباع نمط السرية لضمان النجاح في التنفيذ، على أهمية ذلك في حرب تبدو طويلة ومعقدة وعرضة في الوقت نفسه لمواجهة أطراف إقليمية ودولية متضررة، أو ستجد نفسها في هذا الموقع مع تقدم مسارات الحرب، ولكن أيضا لأنه يواجه اطرافاً تتبع النمط الثعلبي في تنفيذ خططها وإستراتيجياتها. ألم تعمل روسيا على تفكيك أوكرانيا وتهديد أمن أوروبا برمتها وهي تدّعي أنها تعمل تحت سقف قواعد القانون الدولي؟ ألم تجتح إيران اليمن بواسطة «حرسها الثوري» و»حزب الله» اللبناني وتدّعِ أنها ليس أكثر من مؤيد لثورات الشعوب النظيفة؟

لكن، وحتى لا يحمل هذا التحليل شبهة التقييم المبكر لإستراتيجية أوباما تجاه سورية والمنطقة، والتي يتضح أن عملية بنائها لم تكتمل بعد، وان اجزاء كبيرة منها يجري بناؤها في الميدان، غير أن الملامح الاساسية لتلك الإستراتيجية تشير إلى انها من حيث الشكل طويلة الأمد، وترتكز على موارد ضخمة، إقليمياً ودولياً، إذ يجري بناء تحالف واسع بطريقة إستقطابية، حيث نشهد زيادة دائمة في عدد الملتحقين به، وزيادة في موارده، الأمر الذي سينتج عنه حكماً توسع مقابل في أهدافه، إنطلاقاً من إتساع قاعدته الشرعية.

ولتعزيز مسألة شرعية التحالف وتحويله إلى جهة دولية تعمل تحت سقف القانون الدولي، في ما يبدو أنه مصادرة للذريعة الروسية، تعمل الإدارة الأميركية على بناء شبكة قانونية لتحصين أعمال التحالف وشرعنتها (القراران 2170 و 2178)، فالواضح أن المقصود بهذه الآلية القانونية ما هو أبعد من إستخدامها في السجال مع روسيا حول مدى مطابقة الإجراءات الاميركية مع قواعد القانون الدولي، بل المقصود هو إستخدامها كغطاء في إعادة الصياغة الجيوبوليتكية للصراع في المنطقة، في لحظة يبدو خصوم أميركا غير قادرين على المبادرة بسبب حالة الإنهاك التي أوصلوا أنفسهم اليها، نتيجة دخولهم في صراعات تفوق قدراتهم المالية والبشرية، وعدم قدرتهم على إدارة تلك الصراعات بدليل إنفجارها في وجوههم.

على ذلك، فإن الإستراتيجية الأميركية تنطوي على محتوى أبعد من حرب «داعش» في سورية والعراق. فالمناخ الذي يجري تنفيذها فيه، والإمكانات الرديفة لها والتي تفيض عن الحاجة لمواجهة تنظيم عسكري، تشير إلى إبتغائها تحقيق قيم مضافة على المستوى العالمي، في محاولة لترميم ميزان القوة الأميركي جيواستراتيجياً، وفي ظل هذه الوضعية تضع واشنطن خصومها الإقليميين والدوليين ضمن حدين متناقضين، إما الإنصياع لهذه الوضعية والقبول بمخرجاتها، بما فيها تضييق هوامش حراكهم على الساحة الدولية، وإما الدخول في حرب إستنزاف طويلة المدى تستنزف إحتياطي قوتهم الباقية ولا يبدو أنها مضمونة النتائج.

غير أن أميركا التي يبدو أنها صمّمت إستراتيجية متكاملة وشمولية، تصر على تقديم إستراتيجيتها بقالب مرن يتيح لها هوامش أوسع في الحركة، فهي رغم سعيها الواضح لإحتواء كل من روسيا وإيران إلا أنها لم تذهب إلى إغلاق الحوار معهما في ملفات عديدة ولا تعطيل قنوات الإتصال على أكثر من جبهة وساحة، فيما يبدو انه إدارة واعية للصراع، بل أكثر من ذلك ثمة ما يؤكد أنها بعثت بتطيمنات لكليهما بأنها في غير وارد إستهداف حليفهما في دمشق، وان السياق يقتصر على الحرب على «داعش»، وأنها متمسكة بالحل السياسي للأزمة السورية. حتى مساعداتها للمعارضة المعتدلة يجري التسويق لها كأداة للحل السلمي لما ستحققه من توازن للقوى يدفع الأطراف الى خيار التفاوض السياسي.

لكن في المقابل تستخدم واشنطن وحلفاؤها على الأرض تكتيكات تثير قلق نظام الأسد وداعميه وتضعهم في وضعية مربكة، ظهر منها حتى اللحظة: 1- سياسة قضم لأرض المعركة السورية وإدخالها قطعة تلو أخرى في دائرة العمليات القتالية، وإستمرار هذا النمط في القضم يحول الجغرافية السورية بكاملها الى جبهة متجانسة من حيث الإستهداف 2- سياسة تفكيك الكثير من مرتكزات النظام، منها إلغاء إحتكاره السيادي للجو وعزل تأثيراته على أجزاء من سورية. صحيح أن سلطته كانت معطلة في مناطق كثيرة بفعل خروج مساحات واسعة من قبضته، لكن الأمر الآن يجري بإرادة دولية. ومن شأن هذه الإجراءات أن تلغي قدرة نظام الأسد بشكل كلّي وتجعل حتى المساعدات من حلفائه غير ذات جدوى، ليس لأنها ستصبح مستهدفة في مرحلة لاحقة، ولكن لإنعدام إمكان إستخدامها، سواء لضيق هامش تحركها أو نتيجة تعطيلها المفروض بأمر أميركي مثل منظومة الدفاع الجوي.

هل هذا الإدراك المبكر لمآلات الإستراتيجية الأميركية هو ما دفع طهران إلى إستعجال صناعة بديل يمني لدمشق؟ وهل هو ذاته الذي جعل روسيا تسارع إلى إستعراض بارجتها الوحيدة في المتوسط على شواطئ طرطوس؟ الواقع يقول أن أربع سنوات من الإستنزاف الروسي – الإيراني في سورية أفرغ سلتهما من كل أوراق القوة، ولا بأس من لحظة إستعراض أخيرة قبل الجلوس على طاولة التنازلات.

غازي دحمان

نقلاً عن صحيفة الحياة اللندنية

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق