دروس المرحلة الانتقالية في التجربة المصرية: إبطال ميكانيزمات النظام السابق

إن استسهال سير العملية الديمقراطية بانسياب سلس بعد اسقاط الأنظمة الاستبدادية ضرب من ضروب التعميم الرومنسي جداً، يترافق مع اللحظة الاحتفالية التي يعيشها الناس على وقع اختفاء التنين المرموز بالحاكم المستبد. إلّا أن التجارب السابقة لاتشي بهذا الأمر فكم من تجربة اسقاط وتحول انتكست لأنظمة سلطوية تراوح بين انظمة الحكم العسكري الصرفة والأنظمة الاوليغارشية وما بينهما من الأنظمة التسلطية معيدة انتاج الاستبداد بصور واشكال جديدة.

بعد ثورة 25 يناير/ كانون الثاني وتسلم العسكر إدارة دفة البلاد، خرجت دعوات من قلب كتلة الثوار الشبابية من ينادي باسقاط العسكر منعاً لهيمنته على البلاد، نتيجة الحساسية المفرطة من الناس تجاه من قد يسلبهم المنجز التاريخي الذي حققوه باسقاط محمد حسني مبارك عبر ثورة شعبية عارمة، مما حذا بالعسكر لأن يكرروا أكثر من مرة أن مهمتهم تقتصر على تسليم السلطة إلى إدارة مدنية، بعد انتخابات برلمانية ورئاسية، وتحت هذه الضغوط استُعجِلت الانتخابات، دونما النظر جدياً في صناعة دستور جديد للبلاد او إعادة برمجة النظام السياسي، واقتصرت على تعديلات دستورية لم تمس جوهر التغيير المطلوب في بناء نظام سياسي اقتصادي جديد، ولم تسمح للفئة الشبابية الصاعدة من تنظيم صفوفها فكان النصر حليف التيار الأخواني والإسلامي السلفي الناهض بخطاب الحشد الديني السهل وذو النتائج السريعة والمضمونة بالإضافة إلى تنظيمه المتماسك.

المسالة الدستورية ليست شيئاً لاحقاً للتغيير كما يرى البعض بقدر ما تحسم خيارات المستقبل وتحدد قواعد اللعبة الديمقراطية، ولعل المدرسة الدستورية المصرية تزخر بفطاحل الفقه الدستوري الذين يجمعون بين مميزات المدارس الدستورية العريقة في صناعة التسويات الدستورية باعتبارها تسوية سياسية اجتماعية قبل ان تكون مسألة قانونية مقولبة بديباجات لغوية جافة. إن ابقاء العمل بالدستور السابق في الفترة الإنتقالية يبقي ميكانيزمات النظام مشتغلة وإن لم يكن كلها فعلى الأقل يبقي تصورات قيمية تعمل بدرجات متفاوته مؤثرة في الرأي العام وعلى أحكام الناس بطريقة (الإبدال) والتعويض. فعندما يكون النظام السابق محتكراً للتنظيم السياسي وإشغال الحيز العام، سرعان ما تستبدل في حال غيابه الحالة المنظمة النقيضة التي كانت تزاحمه في وجوده بل وتشكل جزءاً من مشهد النظام السياسي السابق وأحد مسوغات وجوده في البعد القيمي والإجتماعي، بينما تبقى هناك ثوابت متعلقة بالأمن القومي والروافع التنموية موحدة إلى درجة كبيرة، لكن حتى هذه حاول الأخوان المسلمون مسها برعونة.

في هذا الموقع لابد من توضيح أن الأخوان المسلمون هم جزء من مشهد النظام السابق معكوساً إذ أنهم يعيشون على وقع تفاعلهم معه ومحكومون بفهمه لإدارة السلطة باعتبارها مطلقة اليد في إدارة شؤون الناس والحياة العامة، وأن السلطة مغنم توجب الحفاظ عليها (منطق النظام السابق)، ولم تسر في أدبياتهم المفردات التاسيسية لثورة 25 يناير في الحرية والكرامة والعدالة والتنمية وتمكين الإنسان.

يعتمد الرأي الذي يفيد بأن الأخوان المسلمين هم جزء من النظام السابق – كما غيرهم يعتبر ايضاً كذلك – على فهم النظام السياسي باعتباره مكوناً من مجموع النظم الفرعية التي تعتبر المعارضة جزءاً أصيلاً منه وهي مرهونه بفهمه السياسي للسلطة وتتحرك بموجب الحواكم التي نظمت اللعبة السياسية في البلاد سابقاً دون النظر إلى التغيرات البنيوية الحاصلة في المجتمع وقيمه.

في هذه الأثناء لم تنتبه الفئة الشبابية المدنية الأكثر اتساعاً إلى متطلبات اللعبة السياسية، هذه الفئة التي تحمل في مكنوناتها ممكنات كتلة تاريخية تنهض بالحالة المصرية بالتعاون مع إرث سابق من الثقافة المدنية التي امتازت بها مصر، فبعد خلو الميادين من التظاهر اقتصر أداء الشباب على الفعاليات المهرجانية الثقافية والفنية والإعلامية، وتعددت المنظمات المدنية والحقوقية لكنها بقيت تحاذي الجانب السياسي دون أن تخوض غماره، وبالتالي لم تشكل مجتمعها السياسي الأكثر تشميلاً لممكات الكتلة التاريخية التي يقع عليها عاتق صياغة دستور البلاد كتعبير عن عقل وضمير الشعب المصري.

الدستور لا يعيد تعريف الدولة فقط، بل يحافظ على ثوابتها التي اصطفت عبر تجربة تاريخية طويلة مرت بها مصر يحددها موقعها الجيوبوليتيكي وتعريفها للمجال الحيوي الذي تنشط به، لكن الدستور بالتأكيد يعيد تعريف وبرمجة النظام السياسي ويحدد الصلاحيات وخطوط الاتصال بين النظم الفرعية للنظام السياسي ككل بما فيها المعارضة السياسية.

في تلك اللقطة التاريخية وأثناء عملية الانتقال وبالاستفادة من بقاء ميكانيزمات النظام السابق مشتغلة استطاعت التيارات الأكثر تنظيماً من أن تتلقف الاستحقاقات الانتخابية على مستوى البرلمان والرئاسة، وأن تعبر إلى السلطة محاولة إعادة برمجة النظام السياسي بما يضمن لها امتاداً زمنياً يعيد تكريس اللون الواحد والخطاب الواحد لكن هذه المرة مع اقحام المقدس وإشهاره كسيف مسلط على رقبة كل مخالف.

الجدير بالذكر أن ما حصل في 30 يوليو/حزيران لم يكن انقلاباً عسكرياً لا بالمعنى العرفي ولا حتى المعياري، إذ يجب أن ننتبه أن الرفض ضد الحركة وباتالي ضد النظام السابق مرة أخرى كما جاءت من قلب الهرم البيروقراطي للدولة التي اعتقد الأخوان المسلمون انهم سيطروا على سلطاتها، فقد لفظتها أجهزة القضاء والشرطة واجزاء هامة من الإدارة العامة ومن ثم الجيش صاحب القوة المجردة التي لا يملك الأخوان مناطحتها بالصيغ الدوغمائية كما حصل في حالتي القضاء والإدارة العامة، أي ان المناعة كانت من الدولة نفسها وما أعطاها المشروعية في تنحية الأخوان على هذا النحو استعادة المجتمع للمبادرة من جديد، وحشد ملايين الناس في الساحات على نحو يفوق ما حدث في 25 يناير.

هنا تعود القاعدة الاكثر حسماً في عملية التحول الديمقراطي وترسيخ قواعد اللعبة الديمقراطية استناداً على قاعدة أن المجتمع المدني صاحب خزان القيم الديمقراطية الأصيلة في الحرية والكرامة، وعليه فإن الدرس المستفاد من التجربة المصرية في المرحلة الانتقالية هو تمكين المجتمع المدني في اللحظتين التاريخيتين السابقة واللاحقة للتغير، أما الدرس الآخر فهو ضرورة وجود الدولة في مؤسساتها وهرمها السلطوي إلى حين إنجاز التحول الديمقراطي وتغيير النظام والاتفاق على تسيير العملية الديمقراطية وإرساء قواعدها على شكل توافقي لا بصيغة المغالبة والأكثرية.

مازن محمود علي

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

الوسم : مصر

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق