جعجعة نصر الله: تأزم الداخل الإيراني، أم هروب للأمام؟

منذ أن انشق نصر الله عن حركة أمل عام 1982، والتحق بحزب الله آنذاك، لم يتردد في التباهي بالتبعية المطلقة لنظام الولي الفقيه على حساب لبنان والعالم العربي، لكن ما مغزى مجاهرته الأخيرة، في ظل ما تعانيه سيِّدَته إيران، من أزمات حقيقية جراء سياساتها وفشلها للخروج من العقوبات؟

الدبلوماسية الإيرانية ومنذ ستة أشهر، وهي تجوب العالم متسكعة، تستجدي رحمة “الشيطان الأكبر” لتطمين المصارف العالمية للتعامل معها، هذا في الوقت الذي تُواجَه بلكمات أمريكية وغربية متوالية، بسبب انتهاكاتها الصارخة لمبادئ حقوق الإنسان، ودعمها المفضوح للجماعات الإرهابية، والتي يعتبر حزب الله جزءً منها وفق مختلف التصنيفات.

فإيران التي خاضت مفاوضات شاقة وطويلة مع الغرب، تنازلت فيها عن الغث والسمين، لم تُعافَ بعد من صدمتها بالقرار الأمريكي بمصادرة ملياري دولار من ودائعها دون حيلة لها، سوى التنديد والتوعد بالمقاضاة في المحاكم الدولية.

وعليه، ففي الوقت الذي يمّر نظام الولي الفقيه بكل هذا الوضع الحرج، كيف يمكن تفسير اعترافات نصر الله بالدعم الايراني؟ هل هو انعكاس لتوسع صراعات العصابات السياسية الايرانية على السلطة، في ظل أنباء شبه مؤكدة عن تردي صحة خامنئي وقرب وفاته؟

أم أن نصر الله يريد فرض واقعٍ آخر، عبر قطع الطريق على اتفاقات أمريكية-إيرانية قد تتم على حسابه؟ أو أنه يهدف لتطمين أتباعه عبر تغطية هزيمته بعد مقتل عشراتٍ من عناصره في سورية؟ ولربما يريد تشجيع حركتي الجهاد الاسلامي وحماس الفلسطينيتين للاقتداء به في تلقي الدعم من إيران، وحثهما على إعلان البيعة المطلقة للولي الفقيه، ودعوتهما لعدم الاكتراث بالقرارات الدولية ومحيطهما العربي والاسلامي.

أولاً: توسّع الخلافات الداخلية في إيران إلى أذرعها

إن جميع تيارات النظام الايراني، سواءً منها التابعة لرفسنجاني من إصلاحيين ومعتدلين، أو تيار خامنئي ومنهم الحرس الثوري، يتسابقون سراً لتوطيد العلاقة مع الأمريكيين، عبر تقديم أنفسهم الأقدر في اتخاذ القرار السيادي، إلا أنهم  قد يختلفون في استراتيجيتهم وتكتيكهم للفوز بهذا السباق المحموم، فرفسنجاني وأتباعه يراهنون على التغييرات في إيران، وعلى دبلوماسية تقديم مزيد من التنازلات، لجني مكاسب اقتصادية تنتشل حكومة روحاني  من أزماتها، وتؤهله للفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة، بينما يسعى التيار المتشدد لكسب الرهان عبر مسارين:

  • داخلياً: عبر استغلال انعكاسات تعثّر رفع العقوبات على الشارع، لتأليبه على رفسنجاني وأتباعه، وإحكام القبضة الأمنية والعسكرية، بحجة تسلل الجماعات الإرهابية لإيران، وقمع حركات تحرير الشعوب، من كرد وعرب وبلوش وتركمان وآذريين. في ظل ما تشهده أقاليم هذه الشعوب من اضطرابات جدية أدّت لإقالة الجنرال “فيروز أبادي” رئيس هيئة الأركان، وإحلال “باقري” محله، والمعروف بقمعه لهذه الحركات.
  • إقليمياً: التوسّع العسكري والسياسي بشكل مباشر، أو عبر المليشيات، في كل من العراق وسورية واليمن ولبنان والبحرين، ليس من أجل المضي بمشروع إيران التوسعي فحسب، بل لربط مصير الداخل الايراني بتحديات ومكتسبات مشروعهم الإقليمي في المنطقة.

من جانب آخر، يبدو أن الدبلوماسية السعودية استطاعت أن تقنع الأمريكيين بإبرام صفقة مع الإيرانيين، يتم بموجبها إقالة “عبد اللهيان” المساعد العربي الإفريقي في الخارجية الايرانية وعضو فريق “أحمدي نجاد” في المفاوضات النووية، وذراع الحرس الثوري في الدبلوماسية الإيرانية، والذي تولّى ملف المنطقة العربية والإفريقية لعدة أعوام. يأتي ذلك إزاء مرونة أمريكية تجلّت في تسهيل بعض المعاملات المصرفية مع إيران، الأمر الذي أثار حفيظة التيار المتشدد والحرس الثوري، مما يرجح نظرية إملاء أوامر على نصر الله للإدلاء بتصريحات من شأنها أن تساهم في تعثر تنفيذ هكذا صفقة، وتقلل من حظوظ معسكر رفسنجاني بالفوز في الانتخابات الرئاسية المزمع عقدها العام المقبل. ومما يعزز هذا الافتراض، صمت معسكر رفسنجاني وأتباعه أمام هكذا تصريحات.

ثانياً: فرض الواقع

في ظل تدخل روسي في سورية، استطاع أن يؤمّن حدود إسرائيل، يبقى لبنان غير المستقر سياسياً، يشكل مصدر قلق للأمن الإسرائيلي، وبما أن حزب الله استطاع أن يرهن قرار هذا البلد لصالح إيران، فمن المرجح أن يكون موضوع مقايضات  التعامل الأمريكي-الإيراني بعد ما حصل في “الفلوجة” من تعامل بينهما، امور تتعلق بسورية ولبنان، سيما وأن قرار جامعة الدول العربية باعتبار حزب الله منظمة إرهابية هيء الارضية لهكذا مقايضات، وأن إبعاد “عبد اللهيان” خلق للحرس الثوري شُبهةً عما يدور بين “ظريف” و”كيري” من لقاءات تزامنت مع فضح لقاءات سرية جرت بين الإسرائيليين و”روحاني”، صرح بها منذ أيام “حسن عباسيان”، أحد أعمدة منظري التيار المتشدد. وعليه، فمن المرجح أن تأتي تصريحات نصر الله لقطع الطريق أمام إبرام هكذا صفقات.

ثالثاً: تغطية الهزيمة

إن قرار تجفيف الموارد المالية المنحدرة من خلايا إيران في الخليج العربي، والتي يتم تحويل غالبها عبر العراق، خاصة بعد قرار مملكة البحرين الأخير حول “جمعية التوعية البحرينية”، ضيّق الخناق على نصر الله وأضعف من دوره في سورية، والذي بدى واضحاً من خلال مقتل عشرات من عناصره أخيراً، مما يضطره لإثارة أمور تهدف لصرف الرأي العام عن خسائره وإشغالها في هكذا تصريحات.

رابعاً: تشجيع الفلسطينيين

بعد تقويض دور تركيا في المنطقة، إثر تأزم واقعها السياسي والأمني، وتخوّف إيرن وتركيا من تعاظم الدور الكردي، تم الاستنجاد ببعض القيادات الفلسطينية للوساطة بينهما، انتهت بإنعاش العلاقة بينهما بشكل نسبي، مما درّ بعض المكاسب على الفلسطينيين، منها مسعى تركي-إسرائيلي لتخفيف وطأة حصار غزة، ودعم  مالي  إيراني، إلا أن الفلسطينيين بدوا حذرين من كيفية تلقي هذا الدعم، خوفاً من تأثر علاقاتهم مع الأطراف الخليجية والدولية، سيما وأن إيران منزعجة من تقلبات مواقف بعض قيادي حركة “حماس”، ويسعون لانتزاع بيعة علنية ومستدامة من “حركة الجهاد” لتعزيز مكانتها” على حساب “حماس”، ومن المرجح أن تكون تصريحات نصر الله تشجيعاً لهم بإعلان البيعة وعدم الاكتراث بقرارات إغلاق حساباته المصرفية في لبنان.

خامساً: تطهير مصادر أمواله

يردي نصر الله إرسال رسالة واضحة، بأن مصدر أموال حزبه ليس ما يتُهم به من إتجار بالمخدرات وغسيل الأموال، بل من دولة عضو في هيئة الأمم المتحدة وذات قرار، وبذلك يرمي كرته في سلة إيران للإيحاء بأنها قوية، وأن أمريكا لا تستطيع لي أذرعها في المنطقة، وأن لديه سبلاً خاصة يستطيع عبرها تأمين سيولته اللازمة لتطمين أتباعه بأن إمداداتهم ورواتبهم ستصل في موعدها المحدد.

وفي هذا السياق، قال الجنرال “رمضان شريف” مدير العلاقات العامة للحرس الثوري: “إن إعلان نصر الله يأتي لتدعيم جبهات الصراع مع إسرائيل، ويحمل رسالة للعرب بأن السعودية والتكفيرين الذين يسعيان لشيطنة إيران والشيعة وجعلهما العدو الأول السنة، ينبغي أن يدركا خطورة ما سيحل بهما جراء ذلك”. وأضاف شریف فی تصریحاته التي نشرتها صحيفة “همدلى” الإيرانية منذ يومين: “إن الغرب وإسرائيل والعرب عاجزون عن استغلال هكذا تصريحات لفرض المزيد من العقوبات على حماس وحزب الله، إذ إنه طيلة المفاوضات النووية وهم يسعون لإقناعنا بالتخلي عنهما دون جدوى”. وعليه فإن تصريحات “شريف” تأتي لتؤكد مقاربة القراءة لجميع الرسائل المستخلصة في هذا المقال.

د. جعفر الهاشمي

باحث في الشأنين العربي والإيراني

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق