تطوير الدبلوماسية الموريتانية: رأي شخصي من داخل الصندوق

كان لتجدد النقاش في الأيام القليلة الماضية حول الدبلوماسية الموريتانية، أثر مباشر لكتابة هذه الخواطر المرسلة والعامة والأولية، خصوصا لافتقار كثير من النقد للعمق والتخصص، بل كان أقرب إلى المزاجية والسطحية، وقبل الخوض في الموضوع أهيب بأعضاء البرلمان ضرورة الإنفاق على الاستشارة العلمية، وتفعيل اللجان المختصة، لتكوين وجهة نظر تساهم في نقد وتوجيه وإصلاح السياسات العمومية، بناء على العلم والخبرة.

 من الشائع في أدبيات السياسة الخارجية أن الدبلوماسية هي وجه الدولة الذي تطل به على الخارج، وهو ما جعل أحد أساطين هذا الفن الدكتور بطرس غالي يقول “إن الدولة لديها حساسية مفرطة تجاه صورتها تشبه حساسية المرأة تجاه مظهرها”. ورغم ما يحمل هذا التوصيف من الدقة،إلا أن الدبلوماسية هي اهم أدوات السياسة الخارجية لأي بلد، وهي اليد التى تبطش بها، والرجل التى تمشي بها في تضاريس موغلة في التعقيد والتجاذب والمصالح والمكائد، فكم تحتاج هذه اليد من القوة الناعمة (المعنوية) والخشنة(المادية) لتدرأ المخاطر وتجلب وتعظم المنافع. كلنا كمهتمين وكممارسين نعرف حقيقة ما تعانية هذه الدبلوماسية وما تحوزه وحازته من الفضائل والمزايا لكننا ندرك أيضا ما تعانيه من الرذائل والنواقص.

لنا أن نطرح في بداية هذه المساهمة المختصرة أسئلة كاشفة لما نحن بصدده: هل استطاعت الدبلوماسية الموريتانية أن تمثل أداة ورسولا أمينا وموفقا للسياسة الخارجية الموريتانية؟

هل تمتلك الدبلوماسية الموريتانية ممثلة بأجهزتها وبعثاتها وأشخاصها الإمكانات والصلاحيات وقبل ذلك الرؤية اللازمة لخدمة الرسالة الموريتانية في الخارج؟

الأخبار نوعان جيدة وسيئة،ولنبدأ بالسيئة ونختم بالجيدة، حتى نخرج متفائلين بإمكانية الإصلاح، والحقيقة الصادمة والسيئة، أننا لا يمكن أن نتحدث عن رؤية –واضحة ومتكاملة ومعلنة-، وهذا لا يعنى أنها غير موجودة ولا يعني أنه لا يمكن تخيلها أو تصورها،بل إن تاريخ وجغرافية وثقافة موريتانيا تكاد تخرج الناقة من الصخرة تلقائيا، وتلقي إلينا رؤية كاملة متفائلة قوية ومرنة كقوة ومرونة هذه العناصر.

ومن المناسب أن أعجل للقارئ بإحدى قصصى الشخصية التي كنت أحتفظ بها للتقاعد –لأعيش بالقص بعد ذلك- فحين عُيِّنت بالسلك الدبلوماسي، شاءت الأقدار أنني في تلك الأثناء كنت في اجتماع ودي مع وزيرين للخارجية سابقا،وكنت كالمزهو أتحدث  بشكل لا يخلوا من المثالية والسذاجة أنني سأذهب إلى الخارجية وأقابل المسؤولين التنفيذين، لمعرفة مهمتي على وجه الدقة وتاريخ العلاقة بين البلدين، وماهي التوجيهات والمصالح التي عليّ تنميتها والتي ربما تجب محاسبتي على التقصير فيها. لقد كان حديثي مثارا للتندر والذكريات لدى الوزيرين الدبلوماسيين،لقد كانت تجربتهم العميقة تقول لي ليس وراء الأكمة أي شيء، سيُقذف بك إلى البحر وإياك ثم إياك أن تبتل بالماء، لقد كانت توجيهاتهم لبقة ودبلوماسية،غير أن أحد الدبلوماسيين الآخرين كان أقل نعومة فقال لي لا بأس، عليك نسيان سنوات التحصيل وما تعلمته من مفردات العلوم السياسية الدولية والدبلوماسية! وأعلم ان خير المستشارين من لزم مكتبه وقرأ كتبه وارتاد مسجده! هل الصورة على هذا النحو من السلبية والعجز؟!.لا شك أنها شبه الأصل أو قريبة جدا من الواقع باختلافات بسيطة حسب الشخص والمكان …إلخ،المهم أن أحاديث الجواز الدبلوماسي والترقيات والرواتب والزيادات خير وأبقى من حديث العمل والصلاحيات في هذا الحقل،تلك أول خبرة وأول صدمة على المستوى المركزي ؛ ولكن وبعيدا عن أدب “الحدوتة”، فإن أية مقاربة لتطوير هذا الحقل وهذه الأدوات لا يمكن إلا أن تتعلق بأربعة عناصر رئيسة:

الأول: إعادة قراءة وتعريف وفهم وتوظيف وتطوير المحددات المؤثرة في سياستنا الخارجية،وهو ما يسمح بصياغة المضامين المتعلقة بالخطاب الخارجي الموريتاني تنظيرا(الإدراك) وتنفيذا (الدور)،وهو عنصر نهمله هنا منهجيا -إلا لماما- لأنه بطبيعته يصعب على الحصر والاختصار في مقالة.

الثاني: الأشخاص، ويتعلق الأمر هنا بالكادر البشري المنفذ للدبلوماسية خصوصا في مهامها الاعتيادية والمستمرة “مهمة التمثيل الدائم”، كبار موظفي وزارة الشؤون الخارجية والتعاون ورؤساء وأعضاء البعثات الدبلوماسية.

الثالث:تحديد وتعيين المسؤوليات والصلاحيات الناظمة لعمل السلك الدبلوماسي،بحدود واضحة وفاصلة خدمة للمتابعة والتقييم والمسؤولية.

الرابع: الموارد والإمكانات المالية والمادية المعينة على أداء وتنفيذ السلوك الدبلوماسي.

1/ بخصوص العنصر الأول من المعروف أن صياغة الرؤية العامة للسياسة الخارجية الموريتانية ،هي قانونيا ودستوريا من اختصاص رئيس الجمهورية في النظام السياسي والدستوري الموريتاني،وهو مبدأ تمت المحافظة عليه منذ دستور 1961 حتى الآن،فهو الذي يحدد من خلال توجيهاته مبادئ وأعمال هذه السياسة،وكذلك هو الذي يعين أصحاب الوظائف  الدبلوماسية وهو الذي يعتمد السفراء …إلخ. ورغم وضوح النص الدستوري هنا إلا أننا لا يمكن ان نتجاهل واقعيا مدى تعقيد صياغة الرؤية العامة للدولة في المجال الخارجي،وهو ما يتطلب منا البحث أو الحديث عن متدخلين آخرين وإن وبدرجات مختلفة، خصوصا بعض مستشاري الرئاسة ووزير الخارجية –لا أتحدث عن وزارة للشؤون الخارجية- وبدرجة تالية الوزارة الأولى،وهو تدخل على كل حال يظل استشاريا في حدود المساعدة.

طبعا هنا –وباختصار مخل– لا نملك إلا أن نتحسر على مدى محدودية ذلك الدورالمتعلق بالجهاز الحكومي التنفيذي،وعلى نفس المنوال والمستوى نأسف لمدى هامشية ومحدودية دورالبرلمان فيما يتعلق بصنع وتنفيذ الدبلوماسية الموريتانية، ويتضاعف الأسف حين نعجز عن رصد متدخلين آخرين،خصوصا مع اتساع وتطور نطاق الممارسة الدبلوماسية التقليدية،لتشمل فاعلين ومجالات ومواضيع جديدة، بحيث لم تعد الحكومة الفاعل الوحيد في المجال الخارجي،خاصة مع غياب مراكز التكوين والتفكير في المجال الخارجي والدبلوماسي، وغياب ما يعرف بالدبلوماسية الشعبية والموازية. مع العلم أنه في الحالة الموريتانية غالبا ما تأثرت الرؤية والسلوك العام للسياسة الخارجية الموريتانية بتوجهات التشكيلات السياسية المختلفة، كمجموعات ضاغطة أبرزها “المجموعة الفرنكفونية والعروبية والافريقية والإسلامية”، وإن كانت هذه المؤثرات الأيدولوجية ليست على نسق واحد من الانتظام والتأثير، ولا تعبر عن توجهات جادة ومحكمة تتقاسم الحيز النظري والادراكي لهذه السياسة.

ومن الواضح هنا أن موضوع دراسة وتحليل الرؤية ليس معطى بدهيا ولا بسيطا بل هو أكثر تعقيدا وتركيبا لكثرة الأبعاد المتداخلة، فالتكوين الشخصي لصانع القرار وميولاته المختلفة تمثل أحد المؤثرات القوية والحاسمة في هذه السياسة -دائما ماكان الوضع هكذا منذ الاستقلال حتى اليوم-، وكذلك مدى حصافة وحضور البيروقراطيين الرئيسين في هذه السياسة، لكن الموضوع الذي لا مراء فيه ويجب أن يمثّل أحد الثوابت لصياغة أية سياسة خارجية موريتانية يتعلق بالمحدد الجغرافي والثقافي ومستجدات الوضع الجيوبولوتيكي، وهي عناصر تسمح لموريتانيا صياغة دبلوماسية ناجحة ورشيقة وموفقة في تعاطيها مع مختلف الوحدات الدولية المختلفة وخصوصا الفضاءات المحيطة الكبرى (العالم الافريقي والعربي والأوروبي )، رغم أن محدد المُقدرات الاقتصادية والأوراق الجيوبولتيكية المستجدة، تتيح صياغة مساهمة موريتانية -مفترضة- على الصعيد الدولي تعطى مداءات أكثر وأوسع نطاقا من مجرد خيارات الجغرافيا، فهل نجحنا تنظيرا وتنفيذا في صياغة رؤية ما؛ تستحضر قوة الموقع هذا والتاريخ الخاص والفرص المتاحة؟!

2/ ويتعلق التحدي الثاني بأشخاص الدبلوماسية الموريتانية “منظرين ومنفذين”، وبما أن الحديث هنا عن تطوير الأداء الدبلوماسي،فلا بد من الإشارة إلى الدور الهام للجانب التنفيذي في العملية الدبلوماسية،طبعا هناك مهمات دائمة تقوم بها البعثات الدبلوماسية وكبار موظفي وزارة الخارجية، وهناك أشخاص دبلوماسيون مؤقتون يقومون بمهمات تفاوض أو اتصال خارجي، غالبا ما تنتهي صفتهم الدبلوماسية عند استنفاذ الغرض من المهمة.

والشق الثاني على أهميته وخطورته أحيانا في الحالة الموريتانية، إلا أن الصنف الأول هو ما يستأثر بهذه المعالجة الجزئية، كلنا نعرف نظريا الصفات التي برع كُتّاب مقررات التاريخ والفكر الدبلوماسي في إضفائها على الدبلوماسيين من إخلاص ونزاهة وكياسة … إلخ، بل تتطرف أحيانا تلك الشروط لتصل إلى الهيئة الخلقية وكذا الأصل والمستوى الاجتماعي! غير أن ما يجب الاهتمام به هنا ونعتبره في غاية الحساسية والتأثير المباشر على المردود الدبلوماسي سواء كان ذلك في صورة عائد مادي على البلد أو عائد معنوى يتعلق بمكانة وصورة موريتانيا،هو عوامل الكفاءة والخبرة والاستعداد، نحن نعرف أن الكفاءة هي متعلق بالتكوين والمعرفة، وبالتالي لا يستساغ أن يمثل البلد من كان حظه من التعليم محدودا.

نعرف أيضا أن الخبرة والتجارب هي أحد العوامل الهامة التى تقف وراء تشكل رؤية وتقاليد دبلوماسية راسخة،أما الاستعداد فهو أكثر تعقيدا وأدق تعريفا من العلم والخبرة، لأنه يتعلق بالمسلكية الأخلاقية والهيئة وثقافة الدبلوماسي، وهو عنصر لا يتوفر دائما أوليس ملازما بالضرورة لمن لديهم الكفاءة،إنه أمر يتصل بالدربة والتجربة الخاصة للأشخاص، وبالكاريزما التى تصعب صناعتها، هذا ما تجب مراعاته واكتشافه وتنميته في الدبلوماسيين. إذا تحدثنا بشكل عملي فان اختيار هؤلاء الأشخاص يمكن أن ينطلق من ثلاث دوائر أو مسارات:

  • المسار الأول قانوني مهني: يتعلق بقانونية فتح المرفق العمومي أمام المواطنين للالتحاق به ضمن شروط علمية وفنية وشكلية معينة، هذا المسار تعرض لكثير من الإهمال منذ عقود ثلاثة مضت، وعلينا أن نعترف أنه أُعيد إليه الاعتبار فيما يشبه عملية إصلاح حقيقية، حيث أصبحت الخارجية في السنوات الخمس الأخيرة تمتلك كوادر شابة مهنية تتوفر على كفاءة نظرية معينة، ولديها اطلاع جيد على مجريات الشأن الدولي، والقدرة على التعامل مع الوسائط التكنلوجية والاتصالية الحديثة،هذه النواة من الدارسين والخريجين قد يمثلون في إطار استراتيجية محكمة رصيدا لمسار دبلوماسي مهنى وتنفيذي ناجح ومستقبلي.
  • المسار الثاني: يتعلق بكوادر بشرية ذات خبرة وتجارب،وهم من قادتهم التجربة المهنية التعاطي مع الشأن الدبلوماسي الموريتاني، وشهد مسارهم المهني الكثير من الاجتهاد والتحصيل والنزاهة،بحيث أصبحوا يمثلون مصدرا من مصادر الخبرة النظرية والعملية في المجال الدبلوماسي.
  • المسار الثالث: يتعلق بأصحاب الكفاءات الأكاديمية من حملة الشهادات العليا والباحثين، والذين قد تمثل مساهمتهم في التكوين والتخطيط والتطوير جهدا مكملا بل وضروريا، كمصدر للمعلومات والاجتهادات المرشدة للمواقف والسلوك في الإطار الخارجي،خصوصا مع غياب أية بنية أكاديمية وبحثية تابعة للخارجية،وهو ما ولد فقرا وعوزا جديا في هذا المجال.

هذه المسارات والمداخل ضرورية الآن لتحسين وتطوير وتلافي النقص والضعف في الكادر البشري،فإذا وجدت ضمن رؤية مرنة وحاذقة ونزيهة للتكوين والتعيين لصالح الشؤون الخارجية، فإنها ستقطع الطريق ولا شك على كثير من مداخل الالتحاق بهذا السلك الحساس بناء على اعتبارات تضر المصلحة الوطنية والصورة العامة للبلد، في بعث من لا يمتلكون حدا أدنى من التكوين والخبرة والمعرفة والموهبة التي تخولهم تمثيل بلدهم بشكل صحيح ومشرف، وهو ما يفتح الباب على ممارسات تثير اللغط من وقت لآخر.

3/ التحدي الثالث: كلنا ندرك أن إلزامية القاعدة القانونية لا تتعلق بكونها آمرة فحسب بل بتطبيقها تطبيقا فاعلا، لكن هل يمكن تفعيل الفراغ؟! يتعلق الأمرهنا بالقوانين الناظمة لمهام وصلاحيات أعضاء السلك الدبلوماسي، خصوصا العاملين في إطار البعثات الخارجية، حيث أن نصف الورقة المكتوب عن البعثات الدبلوماسية لا يساوى ثمن الحبر الذي كتب به، إنه نص غاية في الاستغلاق–إذا جاز التعبير- ولا يقول شيئا! لا بد أن يعرف كل عضو مهمته وحدود مهمته بوضوح،وهو ما من شأنه أن يرفع من مردودية العمل ويساعد في المتابعة والتقييم والمحاسبة. أما أن توكل الصلاحيات إلى مزاجية رئيس بعثة ما مهما امتلك من الحكمة والالتزام-على ندرته- فهوأمر مخالف لمنطق الدولة والمؤسسة،طبعا نحن هنا نهرب باتجاه الحديث عمّا يجب دون أن نخوض فيما هو قائم،والذي يفترض أن تكون مناقشته في مكان آخر غير الصفحات العمومية -إذا ابتليتم فاستتروا- وهي أمراض وعورات تعم جميع البعثات الدبلوماسية الموريتانية -غالبا-، وهو ما أفقدها التوازن المطلوب للعمل لغياب تعريفات وحدود واضحة وفاصلة في هذا المجال.

4/ التحدي الرابع: يتعلق بالإمكانات المالية واللوجستية، إذا كانت الصورة النمطية أن العمل الدبلوماسي هو الكراسي الوثيرة والسيارات الفارهة والعيشة الهنية،فقطعا الكلام هنا لا يتعلق بالدبلوماسية الموريتانية، فالمُسَلَّمة البدهية أن الدبلوماسيين لا يجب أن يُبتَعثوا ليكابدوا العيش فهذا متيسر في الداخل، ولا يجوز أن يكونوا أقل من نظراؤهم،لأسباب موضوعية ونفسية معلومة،وإنما ودون المبالغة تعاني الدبلوماسية الموريتانية في هذا المجال وباختصار مخل من تحديين أساسيين:

الأول:يتعلق بمستوى الدخل دون مراعاة للظروف المعيشية ومتطلبات الحياة في الدول المضيفة،لطالما اعتبرنا أنفسنا متبرعين للدولة بأوقاتنا وإمكاناتنا، هذا للترويح والتنفيس،لكنه يحمل وجها من وجوه الحقيقة! الصحة والتعليم والنقل والسكن  …. لا تزال معطيات عنيدة بالنسبة للدبلوماسي الموريتاني.

الثاني: ميزانيات للعمل،فليس من مصادر الفخار أن ننفق على البنزين والأوراق والكهرباء والماء والتلفون -رغم ما يكتنف ذلك أحيانا من التعثر- فهذه مجرد لوجستيات،ولا نجد ما ننفقه على الخطط الاقتصادية والثقافية والاعلامية  -لمن لديهم خطة وهم قلة- فهي متوقفة؛ لأن الخطط لا تقوم بذاتها، لا يوجد في الميزانيات المرصودة أية نفقة لمعرض أو ندوة أو جلسة علاقات عامة أو يوم لشرح فرص الاستثمار ….إلخ. بل إن احتفالية الاستقلال قد تمثل أمنية يا للعجب! حتى المقترحات البديلة ليست واردة لأن نظام العلاقة مع الداخل غاية في الرتابة والكسل والجمود!

الملاحظة الأخيرة المتعلقة بالإمكانات المادية، وحتى إذا فرضنا إمكانية تحقيق منافع وأهداف ولو على حساب موارد شحيحة ومتقشفة -وهو أمر ممكن- إلا أن هذا غير وارد في العقلية والخبرة الموريتانية، ولذلك فما هو متوفر بعيد كل البعد عن الشفافية والاستخدام العادل،أي أزمة توزيع مقابل عقلية الاستحواذ –مرة أخرى لم نقل شيئا هنا–.

لنتوقف هنا عن السوداية،ونبدأ برصد الجانب المشرق من الصورة -إن امكن- ، فمن المفارقات أن قطاع الشؤون الخارجية والذي يعاني من تلك المشاكل الهيكلية الجوهرية والعرضية، لم تهب عليه رياح التغيير كما ينبغي تماما حتى الآن، وبالرغم من ذلك فإنه على مستوى المخرجات المتعلقة بالمكانة والصورة الخاصة لموريتانيا فإن جديدا قد حدث!والاخبار الجيدة هنا تتعلق بالمعطيات التالية المتحققة والممكنة:

إذا كان لنا أن نلخِّص بشكل شبه إجمالي أدوار وأطوار الدبلوماسية الموريتانية، فقد مرت بالأطوار التالية:

  • طور التأسيس: وهي مرحلة كانت بارزة على مستوى الصورة وبناء السمعة وخدمة المصالح.
  • طور التبديد: وهو طور تخللته نجاحات محدودة، أبرزها الخروج من الحرب وتكريس البعد العربي لموريتانيا في بعض لحظات مساره المتقلب والعشوائي، ولكنه في المجمل أسفر عن نتيجة مخزية في المجال الدبلوماسي، وهي العزلة في نهاية المطاف، نتيجة التخبط والعشوائية في المواقف والسياسات.
  • طور التجديد: وهو طور تشكل في بداياته مع 2005، خصوصا تسويق الصورة الجديدة للنظام السياسي بعد التغيير، وترسخ الوجه الجديد للدبلوماسية، واتضحت معالمه منذ 2009، وتميز بالعمل على استعادة المكانة وصقل الصورة التاريخية. وتميزت هذه المرحلة بالانفتاح على منطقتنا والعالم، وملئ الكرسي من جديد، والعمل على تدعيم الداخل لتقوية مواقفنا الخارجية،وهو ما رافقه عمل مضنٍ على مستوى دبلوماسية القمة، من خلال الاهتمام بحضور الدبلوماسية الموريتانية في تفاصيل المشهد الإقليمي والدولي. ومن الواضح أنه اصبحت لدينا قيادة لها وجهة نظر فيما يحدث في المنطقة والعالم، وهو ما أبان عنه الاهتمام المبكر بقضايا الأمن والهجرة والتهريب والغذاء واللاجئين والبيئة في منطقة الساحل والغرب الافريقي. ورغم تشعب وصعوبة هذه التحديات إلا أن أمرين هامين فسحا المجال لمكانة موريتانيا الجديدة كفاعل إقليمي هام، وكأننا استلهمنا التعريف الكلاسيكي للدبلوماسية، إنها القدرة على إثارة الحرب وتأكيد السلام بين الدول:
    • الأول: الحرب على الإرهاب،فقد استخدمت السياسة الخارجية الموريتانية وببراعة غير متوقعة أداتها العسكرية والدفاعية لمناهضة وردع الخطر الارهابي،فكان للانتصارات التي حققها الجيش الوطني أثرا مباشرا في صورة موريتانيا ونظامها السياسي كشريك مسؤول وقوي،يجب اعتباره والتحالف والتنسيق معه في شؤون الأمن والسلام في المنطقة، ولكن هل استطاعت موريتانيا أن تجنى ثمار هذا العمل الذي هو في الجوهر يمثل حماية للمنطقة ولأوروبا والعالم على الصعيد الاقتصادي؟!
    • الثاني: الانخراط في جهود السلام للبحث عن حلول للأزمات الإقليمية الخطرة ذات الأثر على الأمن والسلم القاري والدولي، فقد اختطت موريتانيا دورها بكل وضوح محرضة على التعاطي الإيجابي عن طريق الحوار والتفاوض لحل أزمات ليبيا وساحل العاج ووسط إفريقيا وشمال مالي،وقد كان للسلوك الموريتاني والرؤية الموريتانية التي عبر عنها رئيس الجمهورية في أكثر من محفل دولي، وجاهة واحتراما خاصا، ثبت مع الوقت مدى حصافتها ومستقبليتها.

وقد سجلت موريتانيا حضورا لافتا على المستوى الأممي وعلى مستوى التكتلات الكبرى في العالم،وأخيرا دخلت موريتانيا مرحلة المبادأة والمبادرة من جعل انواكشوط عاصمة للدبلوماسية، فأنشأت انطلاقا منها المنظمات والمبادرات والآليات للتعاون الإقليمي والدولي والوحدات المشاركة في عمليات حفظ السلم.

ولكن علينا أن ندرك أن الأشجار لا تنبت في الهواء -كما يقول المثل-، وأن المحافظة على هذا الحضور والزخم يحتاج مسارا خاصا من التكوين والإمكانات والتقييم لأجهزة الدبلوماسية، وتطوير رؤية كفيلة باستثمار هذه النجاحات الخارجية لتدعيم مسار التنمية الوطنية داخليا.

  • الجديد الثاني: يتعلق بمحاولات الإصلاح -المفكر بشأنها- والشعور بأهميتها وضرورتها في القطاع الدبلوماسي، لكن العنصر الأهم وكما أشرنا إليه من قبل يتعلق بالكادر البشري، فقد أصبحت الدبلوماسية الموريتانية تتوفر على أطقم وكوادر شابة تمتلك مستوى من الكفاءة العلمية والعملية، إذا استثمرناها على نحو مناسب، فقد تساهم في تطوير الرؤية والأداء إلى ما يجب.
  • المعطى الثالث: هو معطى قديم وجديد يتمثل في إعادة قراءة الفرص والإمكانات التي يزخر بها الموقع الموريتاني، والتى علينا استكشافها وتنميتها في استراتيجية جديدة تمزج بين فرادة الموقع والتاريخ الخاص والإشعاع الثقافي،وهو ما سيعظِّم المصالح والفوائد في ظل هشاشة الوضع الدولي الراهن وتراجع قوة الكيانات والدول العظمى في العالم، على إثر تدهور الإمكانات وتفجر واتساع الشؤون الدولية وتغير مفهوم القوة،مما يتيح فرص مناورة أكثر للدبلوماسيات الناشئة.

وأخيرا، لا يمكن أن أختم هذا المساهمة دون مقترحات محددة غير نهائية ولا مكتملة، لأن الحلول هنا لابد أن تكون مسؤولية جهات وأجهزة وأشخاص متعددين، وهي حلول لابد من التفكير فيها حتى لا تكون الدبلوماسية الموريتانية (كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير):

  • علينا أن نعترف أن اشكال الرؤية المتعلقة بالاستراتيجية ليس عيبا، لأن الدول الكبرى التى تمتلك إمكانيات ووسائل بشرية ومالية ولوجستية كبيرة، جل أخطاءها في المجال الخارجي تتعلق بالرؤية أولا، لذا علينا التفكير جديا، بل حان الوقت لإنشاء إطار أكاديمي وفكري وبحثي تابع لوزارة الشؤون الخارجية،قد يكون معهدا أو مركزا لإعداد الدبلوماسيين،ويقوم بمهام التدريب والتدريس وترجمة الدراسات والتقارير ذات الشأن، والقيام بالدراسات والأبحاث لإحاطة القرار الدبلوماسي بالعلم، ويمكن في هذا الصدد وقبل إنشاء هذا المعهد -مؤقتا- ابتكار آلية للتعاون بين الوزارة والجامعات والمراكز الوطنية القائمة، من خلال برامج تعاون مشتركة يتم تمويلها للخروج بعمل جدي وعلمي وهادف.
  • بعث آلية للاجتماع الدوري لرؤساء البعثات الدبلوماسية في الخارج ورئيس الجمهورية: وهو اجتماع سنوي أو كل سنتين وحسب ما تدعو له الظروف الطارئة،لتقييم الأداء وتبادل المعلومات وتقديم التوجيهات وبحث سبل الارتقاء،وهو ما من شأنه أن يطور تجربة العمل الدبلوماسي الموريتاني ويجعلها أكثر مردودية، فالدبلوماسيون سيكونون -بلا شك- أكثر حرصا لتقديم عمل ملموس ومتقدم أمام الرئيس.
  • مراجعة الإطار القانوني فيما يتعلق بالبعثات الدبلوماسية،خاصة تحديد المهام والمسؤوليات والصلاحيات والتكليف بشكل مفصل ومحدد وواضح.
  • تحسين الأوضاع المالية للأطقم الدبلوماسية -مركزيا وخارجيا- لتكون متساوية أو متقاربة مع نظرائهم من كوادر الشؤون الخارجية والدبلوماسية في الدول المحيطة.
  • تشديد إجراءات المتابعة والمراقبة والتقييم على الأداء والتمثيل ومدى ملاءمته.
  • رغم التطور الهام والملحوظ على صعيد الاعلام والاتصال في الوزارة ، إلا أن العمل على تطوير البعد الإعلامي للسياسة الخارجية الموريتانية يمثل ضرورة قصوى في عالم اليوم ، نتيجة تعقد وتشابك المصالح وتأثير الراي العام في السياسات والشؤون الدولية ،احدى الجزئيات والاجراءات الهامة هنا، تتعلق باهمية تعيين ملحقين صحفيين مكونين تكوينا علميا صحيحا ،إلى بعض الدول والعواصم الدبلوماسية كمرحلة اولى ،خصوصا واشنطن ونيويورك والبرازيل وبروكسل واديس أبابا والقاهرة والرياض والصين.

السعد بن عبد الله بن بيه

كاتب وباحث بمجال العلوم السياسية

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق