تاريخ الاحتلال(5)، لا مال عندنا بل قنابل

آثرت إمارة القواسم عام 1765 والسنوات القليلة اللاحقة استخدام لغة العقل وعدم الانفعال تجاه الاستفزازات الإيرانية، كي لا يستغلها الفرس من جديد للخروج بأي ذريعة للدخول في حروب جديدة انهكت إمارات الساحل وإمامة عُمان، ولم تنهك الفرس!

ورغم مرور سنوات قليلة من الهدوء في إمارات الساحل وإمامة عُمان وبلاد فارس، إلا أن الحرب الأهلية سرعان ما اندلعت من جديد عام 1770، وكان الفرس يفرحون كثيراً إثر حدوث أي حرب أهلية في إمارات الساحل أو عُمان.

وكان الحلفان السياسيان المسيطران على إمارات الساحل وإمامة عُمان كما ذكرنا هما الحلف الهنائي والحلف الغافري وكانا متناحرين، وكانت إمارة القواسم تدعم الحلف الغافري بينما دعمت إمارة بني ياس الحلف الهنائي، وشهد عام 1771 المزيد والمزيد من الحروب الداخلية، التي لم ينتصر فيها أحد!

وبقي الحلفان يتناحران ثم يتصالحان وكأن شيئاً لم يكن! لكن الحقيقة أن إمام عُمان أحمد بن سعيد البوسعيدي كان بحاجة إلى حليف قوي مثل الشيخ راشد بن مطر القاسمي أمير إمارة القواسم في ظل التهديدات الإيرانية.

ففي عام 1772 قام حاكم بلاد الفرس شاه كريم خان الزندي بمطالبة أحمد بن سعيد البوسعيدي بالجزية السنوية التي كان من المفترض أن تدفعها إمامة عُمان منذ العام 1745 نظير الانسحاب الفارسي من عُمان، وكذلك طالب الفرس من إمام عُمان بدفع كافة المتأخرات العُمانية من الجزية على مدى الـ 27 عاماً الماضية!

شعر أحمد بن سعيد البوسعيدي بالخطر الفارسي المرتقب، ورغم الصراع بين إمارة القواسم وإمامة عُمان، إلا أنهما اتحدتا لمواجهة العدو الأكبر بلاد فارس، وعندما اطمأن أمير عُمان لدعم إمارات الساحل (إمارة القواسم وإمارة بني ياس)، ارسل خطاباً إلى كريم خان زندي جاء فيه بما معناه “ليس لدي مال لك عندي، لكن لدي من المدافع والقنابل ما يكفي لتدمير بلادك”.

كان جواب إمام عُمان أحمد بن سعيد بمنزلة إعلان جديد للحرب على بلاد الفرس، وفي الجهة المقابلة من الخليج العربي كان كريم خان في غاية السعادة لأنه حصل على مبتغاه والذريعة التي كان يبحث عنها للدخول في حروب جديدة مع إمارات الساحل وإمامة عُمان، وأصدر أوامره على الفور بإعلان الحرب، واندفع أسطوله نحو مدينة لنجة (عاصمة إمارة القواسم في بر فارس) في جيش مهيب بلغ تعداد جنده أكثر من 6 آلاف جندي.

م تكن مدينة لنجة القاسمية على علم بالتجهيزات الفارسية، وبمجرد أن سمع والي لنجة القاسمي الشيخ سعيد بن قضيب القاسمي القرع المخيف والمهيب لطبول الحرب الإيرانية، ارسل بن قضيب على فور طلب استغاثة عاجل إلى أمير إمارة القواسم في عاصمتها رأس الخيمة الشيخ راشد بن مطر القاسمي، فقرر بن مطر تجهيز حملة بحرية ضخمة تحت قيادته الشخصية تضاهي الحملة الإيرانية، كما قرر أيضاً إمام عُمان السيد أحمد بن سعيد البوسعيدي تجهيز حملة بحرية أخرى لمساندة القوات القاسمية.

من جهتها، استمرت الدولة الإيرانية في حشد قواتها على مدى أشهر عدة حتى العام 1773، وكذلك كانت إمارات الساحل وإمامة عُمان تحشد قواتها استعداداً للموقعة التاريخية المرتقبة.

وقام كل من الشيخين راشد بن مطر وأحمد بن سعيد بوضع الخطط العسكرية، واتفقا على أن تقوم القوات العُمانية بفك حصار مدينة لنجة وتدمير الأسطول الإيراني، فيما يقوم الأسطول القاسمي بسحق مدينة بندر عباس والقوات الإيرانية المرابطة هناك.

توجّه الأسطول العُماني نحو مدينة لنجة وفوجئ بضخامة الأسطول الإيراني ومدفعيتها المتطورة بالمقارنة مع دفاعات إمارات الساحل أو إمامة عُمان، وفتحت المدافع العُمانية نيرانها نحو الأعداء واستطاعت إغراق عدد من السفن الفارسية.

لكن الفرس كانوا على استعداد أكبر، حيث قاموا بنصب كمائن ودفاعات أرضية قوية في بعض الجزر الصغيرة القريبة من لنجة، فكانت الدفاعات الأرضية الإيرانية تطلق قذائفها الثقيلة نحو السفن العُمانية وأصابتها بإصابات بليغة، جعلت المعركة تميل كفتها لصالح الفرس، ولكن سرعان ما تدارك الأسطول العُماني ذلك الكمين وأمر قائده بتوجيه القذائف نحو الدفاعات الأرضية الإيرانية.

واستمر الأسطول العُماني في توجيه قذائف شديدة الحرق، من شدتها اشعلت النيران في الجزر التي كان يحتمي فيها الجنود الفرس واحترقوا فيها، وعندما انتهى الأسطول العُماني من تدمير كافة الدفاعات الأرضية لجيوش الفرس توجّه من جديد نحو السفن الفارسية المرابطة حول مدينة لنجة القاسمية ممطراً إياها بوابل من النيران التي فتكت بالفرس وسفنها، وفي نهاية المعركة استسلم الجنود الفرس للقوات العُمانية.

في بندر عباس كان الأسطول القاسمي الضخم بقيادة أمير القواسم الشيخ راشد بن مطر القاسمي بنفسه يسحق أية سفينة إيرانية يراها تقترب من أسطوله، ولم يتجرأ الأسطول الفارسي على مواجهة أمير القواسم المخيف، وفضلوا الإبقاء على حياتهم بدلاً من الدخول في حرب هم يعرفونها جيداً أنها خاسرة بالنسبة لهم، وهربوا!

والغريب في الأمر أن بلاد الفرس وحاكمها كريم خان زندي كان من المفترض أن يدرس خصومه جيداً ويعرف حجم قواتهم قبل أن يقرر الدخول في حرب خاسرة!

أدرك حينها كريم خان زندي أنه من الغباء الدخول في حروب مع إمارات الساحل أو إمامة عُمان نظراً لإمتلاكها الإمكانيات العسكرية التي تمكنها من مواجهة بلاد فارس، فقرر في عام 1774 توجيه قواته نحو العراق بدلاً من إمارات الساحل أو إمامة عُمان، مستغلاً انشغال الدولة العثمانية في صراعاتها مع بعض الدول الأوروبية.

أما العراق فكان في وضع مزرٍ مع عدم وجود أية قوات عثمانية للدفاع عنه، وكانت العراق تحت حكم والٍ عثماني اسمه عمر باشا، ولم يكن قادراً على إدارة بلد متعدد الطوائف والملل مثل العراق، فكان يستخدم القوة والرهبة لإخافة السكان ويتعامل معهم مثل الحيوانات، كما أساء التعامل مع البحارة والتجار الإيرانيين، في خطوة خاطئة كان ينتظرها كريم خان زندي لمهاجمة العراق، وهذا ما قام به لاحقاً، وتوجهت القوات الإيرانية لاحتلال العراق في جيش قوامه 50 ألف جندي، وذلك عام 1775.

من سلبيات الدولة العثمانية أنها لم توفر أية حماية عسكرية تذكر لمدينة البصرة التجارية الحيوية، ولم تكن هناك سوى سفينتين عثمانيتين تم سحقهما بسهولة من قبل الفرس.

وعندما وجد العراقيون أنفسهم أنهم خارج الحماية العثمانية شنت بعض العشائر العراقية السنية مقاومة شرسة مع الفرس، ولكن الفرس وبسفنهم العملاقة استطاعوا شلّ حركة شط العرب وسحق أية مقاومة لاقوها بكل سهولة بسبب انعدام الدعم العسكري من قبل الدولة العثمانية، هذا بالإضافة إلى عدم وجود أية قوة عسكرية نظامية قادرة على مواجهة الفرس، والذين قاموا فيما بعد بحصار شط العرب ومدينة البصرة.

كان محافظ مدينة البصرة سليمان آغا على علم بالهزيمة القوية التي تعرض لها الأسطول الفارسي من قبل الأسطول العُماني، كما أنه كان مدركاً أن تركيا غير قادرة على توفير أدنى حماية له، فقام الآغا بإرسال نداء استغاثة إلى إمام عُمان السيد أحمد بن سعيد البوسعيدي، ولبى الإمام النداء على الفور وأمر بإرسال أسطول عُماني ضخم قوامه 80 سفينة مدمرة، بعضها حمولته تتسع لعدد 80 مدفعاً ضخماً.

وعندما وصل الأسطول العُماني بقيادة قائد القوات البحرية العُمانية ماجد بن سعيد الحارثي إلى شط العرب فتح نيرانه نحو القوات الإيرانية التي كانت تتساقط مثل تساقط ألواح البولينغ عندما تضربها الكرة، وعندما دخل الأسطول العُماني البصرة استقبله أهلها بالترحاب والبكاء على هذا الانتصار الكبير، فيما كانت السفن الإيرانية تحترق، أما السفن التي لم تحترق فقد غرقت في البحر فيما كانت آلاف الجثث من جثث الفرس تطفو على البحر، وذلك في سبتمبر/أيلول من العام 1775. وقررت تركيا مكافأة إمامة عُمان على تلك المساعدة ومنحها مكافأة سنوية.

في العام التالي 1776، غادر الأسطول العُماني مدينة البصرة وشط العرب ليعود إلى بلاده بعد أن أنهى مهمته، كما حرص الأسطول العُماني قبل مغادرته على تدريب العراقيين بعض المهارات القتالية، وبمجرد أن غادر الأسطول العُماني عاد الفرس من جديد لمهاجمة العراق واحتلال البصرة، وذلك لعدم تعلم تركيا من الهزيمة السابقة! فكان من المفروض أن تقوم تركيا بتدعيم البصرة عسكرياً وتوفير كافة الاحتياجات الدفاعية، ولكنها تركت البصرة على حالها وكأنها توجّه دعوة مفتوحة للفرس باحتلالها، وهذا ما حصل.

في عاصمة إمارة القواسم رأس الخيمة كان أميرها الشيخ راشد بن مطر القاسمي قد أصبح كبيراً في السن، ولم يعد قادراً على قيادة أساطيله العسكرية بنفسه، يذكر أنه يقود الأساطيل القاسمية منذ أن كان شاباً تحت إمرة والده الحاكم السابق الشيخ مطر بن ارحمه القاسمي، وقرر الشيخ راشد بن مطر التنحي عن الحكم بسبب اعتلال صحته التي انهكتها الحروب مع الدولة الإيرانية، وقرر تنصيب ابنه صقر حاكماً جديداً على إمارة القواسم عام 1777، ولكن الغريب في الأمر أن صقر يعتبر أصغر أبناء الشيخ راشد، ولا يُعرف لماذا فضلّ تسليم مقاليد الحكم لأصغر ابنائه!

انتهج الحاكم الجديد لإمارة القواسم الشيخ صقر بن راشد القاسمي سياسة والده القائمة على بناء قوة عسكرية مهيبة تفرض احترامها مع جميع دول المنطقة، كما قام بتعزيز علاقاته مع بقية الدول المجاورة، ولكن شاءت الظروف أن تتعكر العلاقات من جديد بين إمارة القواسم والدولة العُمانية لأسباب لا وجاهة لها!

من جهتها كانت المملكة المتحدة تراقب القوة العسكرية لإمارة القواسم وتدرس تدميرها لما تشكله من تهديد على المصالح التجارية للمملكة المتحدة في الخليج العربي، وكانت الدولة البريطانية تتعمد استفزاز إمارة القواسم بدخول المياه الإقليمية التابعة للإمارة من دون استئذان، الأمر الذي دفع بأمير القواسم باستحداث قوات لخفر السواحل عام 1778.

وتعتبر إمارة القواسم من أقدم دول المنطقة التي انشأت ما يعرف بمفهوم اليوم “خفر السواحل”، واعترضت تلك القوة العديد من السفن البريطانية التجارية واحتجزتها لانتهاكها المياه الإقليمية لإمارة القواسم، فثار المقيم السياسي البريطاني جون بيموت في مدينة بوشهر، مطالباً الشيخ صقر بن راشد بإعادة السفن البريطانية ولكن أمير القواسم رفض ما لم تقوم الحكومة البريطانية بدفع غرامة لانتهاك تلك السفن مياهه الإقليمية.

ما قام به الشيخ صقر بن راشد القاسمي حاكم إمارة القواسم في إمارات الساحل يُعد حقاً مشروعاً له، فمن غير المعقول أن تقوم سفن الدول الأخرى بانتهاك شواطئ الآخرين بلا استئذان أو دفع رسم عبور!

ونجح الشيخ صقر فعلاً في تعزيز خزانته بمورد مالي مشروع، ولكن الدولة البريطانية لم تعترف بالحقوق المشروعة لدول المنطقة في فرض رسوم العبور فأطلقت لقباً ظالماً وهو “ساحل القراصنة” على إمارات الساحل.

د. سالم حميد

رئيس مركز المزماة للدراسات والبحوث

نقلاً عن ميدل ايست اونلاين

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق