النيوليبرالية العربية وسياسات الاسترقاق الجديد

لم تتوقف تداعيات مرحلة “الربيع العربي” على القضايا الأمنية والسياسية، أو على الدول الحاضنة للثورات/الاحتجاجات الشعبية، بل إنّ هذه التداعيات ما تزال متفاعلة في عدّة مجالات وعلى رأسها المجال الاقتصادي، والذي يُعتَبر المجال الأكثر مرونة “تأثراً” بالمتغيرات المحلية والخارجية. ففي حين تحتاج المجالات السياسية إلى فترة متوسطة المدى حتى تتبلور التأثيرات داخلها، وتمتدّ هذه التأثيرات داخل المجالات الاجتماعية/الثقافية إلى فترة طويلة المدى تحتاج إلى جيل أو ربّما أكثر، فإنّ القضايا الاقتصادية غالباً ما تعكس أيّ متغير يقع ضمن البيئة المقصودة خلال أشهر أو ربّما أقل.

وبداية هذه التأثيرات كانت مع تراجع قيمة العملة في الدول الثورية/الاحتجاجية، وما ترافق معه من تراجع/سوء الخدمات التي تقدّمها الحكومات بعد الثورية/الاحتجاجية، سواء لعجزها عن تقديم ذات الخدمات، أو تعمّد أجهزة الدولة العميقة في هذه الدول، تقديم خدمات متدنّية عن سابقتها، في محاولة لمعاقبة المجتمع على سلوكه الاحتجاجي، أو سواءً لنتيجة تكشّف الأزمات البنيوية التي ترسّخت في بنية الدولة العربية، بل وتكشّفها دفعة واحدة، ما قاد إلى انهيارات اقتصادية، ضمن انهيارات أخرى.

هذه المنعكسات كان من الممكن أن تقف عند حدود الدول الثورية/الاحتجاجية، لكن التراجع الحاد في أسعار النفط، أدّى إلى تعميق هذه المنعكسات، وامتداداها لتطال الدول الريعيّة النفطية. وهنا، لابد من التنويه إلى أنّ الدول العربية في مجملها ريعية، فهي إمّا دول ريعيّة تستند في ريعيّتها إلى الفساد والضرائب والمعونات، وإما ريعيّة نفطية. وبالتالي فإنّ المنعكس الاقتصادي لتراجع أسعار النفط كان باتجاهين:

الاتجاه الأول والمباشر، كان على الدول غير النفطية، إذ إنّ حجماً مهماً من اقتصاداتها قائم على المعونات التي تتلقاها من الدول النفطية (ريعيّة المعونات). وهو ما دفع هذه الدول إلى إعادة صياغة آلياتها الاقتصادية المحلية، في محاولة للتعويض عن نقصان الدخل الحكومي من جهة، وعن تفشي الأزمات من جهة أخرى، وعن ضغط إعادة ضبط المرحلة ما بعد الاحتجاجية من جهة ثالثة، وعن مطامع النخب الحاكمة الجديدة (أو المُجَدَّدة) من جهة رابعة.

أمّا الاتجاه الآخر، واللاحق، فكان المنعكس على الدول الريعية النفطية، وتراجع مستويات الرفاه الاجتماعي، تدريجياً، وبحدّة متصاعدة، ما دفع الحكومات إلى محاولة التعويض عن التراجع الحاد في أسعار النفط، من خلال إدخال تغييرات على مفهوم “دولة الرفاه الخليجية”، من خلال استحداث/إضافة ضرائب ورسوم جديدة، تحاول تغطية النقص في المدخول البترو-دولاري، في معادلة خطرة من خلال الدمج بين شكلين من الريعية (الريعية النفطية والريعية من الضرائب). وإن كان منعكسها الواضح مباشرة هو على فئة (العمالة الوافدة في هذه الدول والتي أدّى تأثرها السلبي إلى مزيد من التراجع في اقتصادات دولها). إلا أن منعكساتها اللاحقة ستطال شرائح كثيرة من المجتمعات المحلية (المواطنين)، وخصوصاً مع قدرة الحكومات المحدودة في توفير الدعم المالي المباشر للمواطنين، في حال استمرار أسعار النفط المنخفضة لفترات أطول، وذلك بناء على تجربة المعونات (بطاقات الدعم) في الجمهوريات الاشتراكية العربية وسواها.

يضاف إلى ذلك، أنّ هذه التغيرات الاقتصادية، تأتي ضمن موجة جديدة من النيوليبرالية الفجّة، التي تجتاح العالم العربي بعنف، وبالتالي فهي تهدّد بتحويل غالبية السكان إلى حالة يمكن تسميتها تجاوزاً “الاسترقاق الجديد”، ويمكن تلمس ملامحها في تفشي حالة اقتصادية جديدة (موجودة مسبقاً ولكن توسعت بشكل كبير)، فيها بالكاد يستطيع الفرد تلبية متطلباته الأساسية ودفع الضرائب، مع فقدان الفائض المحدود من المدخرات التي كانت تشكل عامل أمان لما يمكن تسميته تجاوزاً “الطبقة الوسطى”، رغم ما طرأ على تعريف هذه الطبقة من تغير كبير في العقدين الأخيرين، وهو ما يهدد باضطرابات اجتماعية وسياسية أخرى لاحقة.

فيما تتخلى كثير من الحكومات العربية عن أدوارها الاجتماعية من خلال: (إسقاط الدعم، زيادة الضرائب، فرض ضرائب جديدة، تخفيض سعر العملة، تخفيض أجور، التخلي عن خدمات شبه مجانية، …)، مترافقة مع مستويات فساد عالية، تضع على سبيل المثال: (الكويت في المرتبة 75 عالمياً، مصر والجزائر في المرتبة 108 عالمياً). في حين تضع الدول العربية الفاشلة والمهددة بالفشل على رأس الدول الفاسدة في العالم (العراق في المرتبة 166 عالمياً، اليمن وليبيا والسودان في المرتبة 170، سورية في المرتبة 173، الصومال في المرتبة 176) وذلك من أصل 176 دولة شملها تصنيف منظمة الشفافية الدولية Transparency International.

وتترافق هذه المستويات من الفساد بالطبع، مع منظومة تسلطية محكمة، مرتبطة بالمركزية النيوليبرالية الغربية، وتابعة لها في كثير من الحالات. لتتحول عدّة حكومات عربية إلى ما يشبه التاجر الفاشل، ضمن منظومة الارتباط هذه، والذي يحاول تحقيق أعلى المكاسب في وقت قصير للغاية، بغض النظر عن الطريقة (الإدارة عبر العجز والضرائب)، والتي قد تؤدي بالمحصلة إلى أن تكون هذه السياسات طريقة أخرى لتخريب ما تبقى في هذه المنطقة، كما حصل مسبقاً (في تسعينيات القرن العشرين) في أمريكا الجنوبية على سبيل المثال.

د. عبد القادر نعناع

باحث وأكاديمي سوري

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق