المرتكز البراغماتي للسياسة الإيرانية وإيديولوجيا الإيهام والتواجد: من السياحة إلى السلاح

مقدمة

تنطلق محددات السياسة الخارجية الإيرانية، من قاعدة أساسية تقوم على تثبيت أعدائها الاقوياء، والاعتراف بهم، والتركيز على أعدائها وأصدقائها الضعفاء بهدف التسليم بها، مستفيدة في ذلك من طبيعة العلاقات بين الوحدات الدولية، القائم على المصلحة الذاتية للدول، بما يحقق لها ميزة الإقلاق في محيطها، وصولاً لمكاسب استراتيجية حيال الأقوياء من أعدائها، والتنسيق معهم حتى لو كلفها ذلك الإطاحة بأقرب حلفائها.

يتحدد السلوك السياسي الإيراني في إطار عملية تكتيكية، لا تخرج عن استراتيجيتها النهائية، التي تبدأ وتنتهي بميزة التفكير البراغماتي، القائم على المساواة بين الأعداء والأصدقاء، في جغرافية سياسية واضحة لمصالحها الحيوية، محدد بالمنطقة العربية بشكل عام، ومنطقة الخليج العربي بشكل خاص.

في علاقتها مع دول المنطقة، تبدو إيران دولة صديقة لدول عربية وخليجية، في الوقت الذي تبدو فيه أيضاً عدوة لدول عربية وخليجية.

وتتعقد المعادلة الإيرانية أكثر، في علاقتها بالداخل العربي والخليجي، فهي داعمة وممولة لمكونات داخل الدولة الواحدة، على حساب مكونات داخلية أخرى، الأمر الذي  رسخ  حالة من التشويش والفوضى، التي كرست منطق الخلاف العربي- العربي، كما شكلت مدخلاً استراتيجياً لبروزها كقوة إقليمية بديلة عن النظام الإقليمي العربي، الذي انتقل من الصراع بين “العلمانيين” و “الإسلاميين” العرب، إلى صراع بين المكونات الإسلامية العربية ذاتها، التي انتقلت هي الأخرى من صراع  داخل المذهب الواحد، بين موالٍ لها، وآخر يختلف معها، قبل أن تتبلور إلى اصطفافات طائفية، تشهدها المنطقة الآن.

إيران: استعداء الشيعة لا حمايتهم

قبل ” الثورة الإسلامية في إيران” سنة 1979، شكل البعد التاريخي في التعايش بين السنة والشيعة منعكساً لبلورة مفهوم الدولة المعاصرة، التي ولدت على أنقاض الدولة الدينية، لاسيما في مراحل ما بعد نهاية الدولتين الدينيتين، العثمانية(السنية)، والصفوية (الشيعية). مهد ذلك لاندماج المكونين في إطار وطني مشترك، ولفترات طويلة من التاريخ، قبل أن تعود فكرة الدولة الدينية، مع وصول الخميني إلى السلطة، الذي أعاد لإيران فكرة تسيس المذهب، بعد أن نجحت المنطقة العربية في تجاوز ظاهرة الاختلاف الديني أو المذهبي، الذي خرج من الجامع والحوزة، ليصبح مادة خلافية بين المكونات المجتمعية، بل وقطع الطريق على الكثير من محاولات التقريب بين السنة والشيعة، في مراحل ما قبل الثورة الإيرانية.

منذ فكرة تصدير الثورة الإيرانية، كحامل أساس في الدستور الإيراني، وضِعتْ الدول العربية، في واجهة المشروع الإيراني-المذهبي الجديد، الذي لم يكن مشروعاً شيعياً في مواجهة السنة وحسب، بل في مواجهة المذهب الشيعي ذاته. فلا يخفى على أحد الدور الإيراني في شق صفوف الشيعة أنفسهم، سواء على صعيد المذهب كعقيدة، أو على صعيد الأحزاب السياسية الشيعية في إطارها الوطني.

ففي المسألة العقيدية، أفرزت نظرية ولاية الفقيه، صراعاً بين أبناء الوطن الواحد والطائفة الواحدة، ظهرت أولى تجلياته في الصراع بين مقلدي مرجعية ” قم” في إيران، ومقلدي مرجعية ” النجف” في العراق، التي وصلت إلى حدود الاقتتال، الذي دفع ثمنه أبناء الشيعة أنفسهم (العراق ولبنان على سبيل المثال)، في نأي واضح عن أية تداعيات داخل إيران.

لقد أفرزت مسألة الولاية المطلقة للولي الفقيه، التي نادى بها الخميني ليكون مرجعاً مطلقاً في جميع المسائل السياسية والدينية لعموم الشيعة في العالم، حالة من الاختلاف على تعريف المذهب، الذي اعتبرته الكثير من المرجعيات العربية والإيرانية، افتئاتاً على معتقدات المذهب الشيعي، الذي يؤمن بفكرتي “الغيبة” و “الرجعة”، اللتان لم تعد لهما قيمة، بعد أن نصب الخميني نفسه ولياً ينوب عن الغائب المنتظر.

أما على صعيد الأحزاب السياسية التي كانت تعمل في إطار وطني عروبي؛ فقد شكل النموذج اللبناني، منذ تأسيس حركة أمل، حالة خلافية بين الشيعة اللبنانيين، عندما لم تنجح إيران في جر التوجهات الوطنية لحركة وموقعها في المقاومة الوطنية اللبنانية، إلى حضيرة النظرية السياسية لولاية الفقيه.

 وبناء عليه، نجحت إيران في سلخ فصيل من حركة أمل، كنواة لتأسيس حزب الله، الذي دخل في مراحل لاحقة في أتون الاقتتال الدموي مع حركة أمل، في احداث إقليم التفاح 1987، التي ذهب ضحيتها الآلاف من أبناء الطائفة الواحدة، والمدينة الواحدة والقرية الواحدة، والبيت الواحد.

 

إيران: السياحة الدينية، وفكرة الدفاع عن مثاوي أهل البيت

من لبنان انطلق العمل الإيراني المنظم في الدول العربية، من خلال فكرة تفعيل الحوزة، ومن مدخل الرعاية لمثاوي أهل البيت أينما كانوا، وتفعيل السياحة الدينية الإيرانية، حيث شكلت هذه الحالة مدخلاً للتشيع – كحالة سياسية- وذلك في الاستفادة من  الخاصرات الرخوة في القرى والأرياف، والمناطق الفقيرة والمهمشة، التي أفرزتها آليات الحكم الفاشلة سياسياً واقتصادياً.

ومن هذه النقطة، بدأ التشرنق الإيراني، الذي بدأ بتشكيل بؤر النفوذ، التي نقلت المكون الشيعي من الحالة الوطنية، إلى التشيع كنظرية سياسية- صفوية، فانتقلت المكونات الشيعية العربية من كونها مدارس فقهية تجادل الآخر بطرق دعوية، إلى مكونات سياسية تحمل توجهات الهوية القومية الفارسية، التي وظفتها الحكومات الإيرانية المتعاقبة، لتكون مدخلاً لتكفير الأنظمة والشعوب في المنطقة العربية، وكحجة لتبرير وجهة النظر الإيرانية في تعاملها مع محيطها.  وقد صرح بذلك الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد بقوله: ” إن هناك تأويلات كثيرة للإسلام، إلا أن التأويل الإيراني هو أساس ممارستنا، وأن خبرة التاريخ تثبت أن التأويل الإيراني للحقيقة هو الأقرب للحقيقة”.

استراتيجية الإيهام والتواجد والتراكم

تعتمد إيران في تكريس سياستها الخارجية، على العمل الاستخباري، الذي يكتفي في مراحله الأولى، بأدنى نجاحات ممكنة، وربما اللانجاح أو الفشل، وتعتبر أن مجرد الإيحاء بوجودها مكسباً لها، ومقدمة  ممنهجة لتراكم النتائج، التي تقوم بدعمها مادياً ومعنوياً، عن طريق منظوماتها الاستخبارية، كجيش القدس والحرس الثوري.

 فعلى سبيل المثال أشارت مصادر موثقة في وزارتي الداخلية والدفاع في العراق، أن عدد الميليشيات المسجلة بشكل رسمي، والمدعومة بشكل مباشر من المؤسسة الرسمية في إيران، بلغ 220 ميليشيا، مرتبطة بفيلق القدس وحده2.

وعلى هذا الأساس، تبنت السياسة الإيرانية، سياسة راديكالية تجاه القضايا العربية، أخذت طابع المغالاة في التعاطي مع القضايا العربية، كمدخل حاولت من خلاله أن ُتظهر نفسها ” ملكاً أكثر من الملك”، فكانت ايديولوجية الرفض ومحاربة الاستكبار العالمي، مدخلاً للسلسة الخارجية الإيرانية في علاقتها مع الولايات المتحدة الأمريكية.

 لم تتوقف السياسة الإيرانية عند هذا الحد، بل بادرت إلى استعداء كل من ينضوي تحت القوى الدولية العظمى، فنعتتهم بالمرتزقة، والتابعين للإسلام الأمريكي، والمتاجرين بالقضية الفلسطينية3، الأمر الذي خلق تشويشاً في العلاقات العربية- العربية، لاسيما تجاه الموقف من دول الخليج العربي، الذي تكرست خلافاته أكثر فأكثر مع النظم العربية، لاسيما  دول الطوق، مما عزز الفرقة بين العرب المعنيين أكثر من غيرهم في قضيتهم المركزية فلسطين.

في مواجهة ذلك،  اتبعت الولايات المتحدة الأمريكية، سياسة احتواء إيران وليس التصادم معها، بالعمل على استثمارالعلاقة بين البلدين، خصوصاً بعد التوجه الإيراني في انتهاج سياسات خارجية، تقوم على مواجهة المخاطر الناجمة، ليس من القوى الغربية وحسب، بل من القوى الإقليمية في المنطقة، وفي مقدمتها الدول المركزية في الخليج العربي، حين اعتبرت الأنظمة الملكية، تخالف التشريع الإسلامي، وهي الحالة التصادمية التي استفادت منها الولايات المتحدة، في إيجاد نوع من التوازن في علاقتها بمنطقة الخليج العربي.

لذلك اختارت الولايات المتحدة، فور انتصار الثورة، النهج الدبلوماسي بالتعامل مع إيران، بعد أن أدركت الملفات المشتركة، التي تتفق فيها المصالح الأمريكية والإيرانية في المنطقة العربية، لاسيما ماتعلق منها بالمشروع الأمريكي – الصهيوني، في توظيف الإسلام وإقحامه في السياسات الدولية، و تثوير العامل الديني والصراعات الطائفية، وهوما سمح للسياسة الإيرانية،  توظيف الطابع العقائدي- المذهبي لثورة 1979، وإعطاء الأولوية لنظريته في تصدير الثورة، والتمدد في كامل محيط إيران.

من هذه النقطة بالذات، تمكنت السياسة الإيرانية، من الترويج بكل قوة وطمأنينة لما اسمته “الحكومة الإسلامية”4، التي تعود في جذورها لفكرة الخميني، في “الخلافة والجهاد المستمر”، كمرتكز للسياسة الخارجية الإيرانية، وسلوكها السياسي إلى يومنا هذا.

إيران: من السياحة الدينية إلى التواجد المسلح (البداية من حزب الله).

 ولد حزب الله الشيعي من رحم حركة أمل الشيعية عام 1982، خلال الحرب الأهلية اللبنانية، عندما كانت حركة أمل تمثل جميع الشيعة اللبنانيين، وتدافع عن مصالحهم ومصالح لبنان، من خلال سياسة ترفع الولاء الوطني اللبناني، المنضوي تحت المقاومة الوطنية اللبنانية، الأمر الذي لم يعجب إيران كدولة نصبت نفسها حامية للشيعة في العالم.

 قامت إيران بشق حركة أمل، وتأسيس حزب الله، الذي أصبحت علاقته معها أبعد من علاقة نظام بحزب، أو تنظيم ثوري خارج الحدود؛ فقد تحوّل حزب الله إلى جزء من مؤسسة الحكم في إيران، فقد أعلنت قيادة الحزب تمسكها بإيديولوجية الثورة الإسلامية الخمينية في إيران، وتبنيها المطلق لمبدأ ولاية الفقيه، التي لا تؤدي الولاء إلا لمرشد الثورة الإيرانية ومن بعده 5. ولم يكتف الحزب في تحالفاته مع إيران، إنما جرّ إليه منظمة حماس الإسلامية، ليتكون بذلك محور انتقل في مراحل ما بعد الخروج السوري، من القيادة السورية إلى القيادة الإيرانية ببعدها الإقليمي.

الفكرة ذاتها، انتهجتها إيران في البحرين بعد الانسحاب البريطاني، ومحاولتها إيهام المجتمع الدولي بأحقيتها، إلا أن الشعب البحريني حسم خياراته بعدم الانضمام إلى إيران، في الاستفتاء الذي أجرته منظمة الأمم المتحدة. ومنذ ذلك التاريخ وإيران تعمل على سياسات التراكم، والتواجد، والإيهام، للتدخل في الشؤون البحرينيةبالاستناد إلى العامل المذهبي.

 وفي هذا الخصوص يقول عالم السياسة الأميركي جورج فريدمان: “من الواضح أن لإيران اهتمامًا بزعزعة النظام البحريني، لكن من غير الواضح إلى أي مدى تتدخّل هناك”، في إشارة من فريدمان للدور الإيراني في الاحتجاجات الدامية في البحرين، بعد تأسيس فروع مسلحة تابعة لإيران في البحرين، طالبت بإقصاء النظام الملكي.

وفي إطار سياسات الإيهام، والتواجد، والتراكم ذاته،  لم تتوقف تصريحات القادة الإيرانيين بالمطالبة بضم البحرين، بالرغم من يقينهم باستحالة ذلك دولياً، بقدر ما كانوا يهدفون من ذلك، تثوير الداخل البحريني، و صناعة “برويوغندا” إعلامية، لاستفزاز جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، والإشارة لموقعها في القضية البحرينية، فقد صرح  حسين شريعتمداري المستشار الإعلامي للرئيس الإيراني السابق احمدي نجاد، في حديث نشرته صحيفة كيهان الإيرانية في تموز 2007: ” أن البحرين كانت إقليماً إيرانياً، ويريد شعبه العودة إلى الوطن الأم”6، في تجاهل واضح لرأي الشعب البحريني، وقرار الأمم المتحدة.

خاتمة

لقد أظهرت السياسة الخارجية الإيرانية تعاملاً براغماتياً، يساوي بين أعدائها وأصدقائها، في معرض سياساتها الرامية إلى تحويل المنطقة العربية، إلى دول فاشلة تتصارع فيما بينها، ولعل ما حدث ويحدث في العراق، ولبنان، ودول الخليج العربي، وسورية، واليمن الآن، أمضى دليل على ذلك.

انكشف هذا التعاطي البراغماتي في الدور الذي اضطلعت به إيران، في إطالة أمد الصراع في سورية، حيث ظهر التنسيق السياسي والاقتصادي بين إيران، والدول المعنية في تأجيج الصراع الدموي، إلى الحد الذي كانت تريد من وراءه، تقويض كل قوة للنظام السوري- الصديق، وتحويله إلى مجرد ميليشيا، في محاولة لتكرار السيناريو اللبناني والعراقي، وخلق حالة من الفوضى، التي تمكنها من إرباك جميع الأطراف، بما يقوي موقفها التفاوضي بشأن برنامجها النووي، وهو ما أثبتته أحداث الأيام الأخيرة، عندما أبدت استعدادها للتعاون مع الغرب، للقضاء على التنظيمات المتطرفة، التي ولدت من رحم ثقافة “الخلافة الإسلامية والجهاد المستمر”، كحامل أساس في العقيدة الاستراتيجية الإيرانية.

د. محمد خالد الشاكر

خاص بمستقبل الشرق للدراسات والبحوث

 

الهوامش:

1- Mahdi A Marriage of Convenience, Majalla.com 17 November 2010

2- للاستفاضة انظر: عبد الوهاب قصاب،احتلال ما بعد الاستقلال، ، التداعيات الإستراتيجية للحرب الأمريكية على العراق، ( بيروت:مركز دراسات الوحدة العربية، 2007 )، ص 70-143.

 3- مجلة العلاقات الإيرانية الدولية، السنة الثالثة، العدد السادس، حزيران، 2003، ص51-54.

4-للاستفاضة انظر: نيفين مسعد، صنع القرار في إيران والعلاقات العربية الإيرانية، ( بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2000)، ص 53،59.

5- صحيفة الشرق الأوسط، 8/5/2006.

6- فكرت نامق عبد الفتاح، عبد الجبار كريم الزويني، السياسة الخارجية الأمريكية حيال الخليج العربي بعد 2003، (بغداد: مركز حمورابي للبحوث والدراسات الاستراتيجية، 2012)، ص  388.

الوسم : إيران

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق