الحرب الإيرانية العراقية، وإيديولوجيا الخلافة والجهاد: وجهة نظر قانونية

منذ اليوم الخامس لاندلاع الحرب العراقية الإيرانية، وافق العراق على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 479 تاريخ 28 سبتمبر 1982، القاضي بوقف إطلاق النار بين الجانبين، قابله رفضاً إيرانياً لكل ما يتعلق بمسألة وقف إطلاق النار، التي اعتبرها الخميني، وقفاً لمسيرة الخلافة الإسلامية، وعقيدة الجهاد المستمر، كحامل أساس في الثورة الإيرانية.

وضع الخميني شروطاً تعجيزية مسبقة لوقف إطلاق النار أهمها، الإطاحة بالنظام العراقي، وضرورة ترك الجيش العراقي لثكناته العسكرية، والالتحاق بالثورة الإسلامية، التي جاءت لمحاربة الكفار في العراق والمنطقة.

على الصعيد الأممي، شكل الرفض الإيراني، لقرارات مجلس الأمن الدولي، نموذجاً واضحاً وبيناً، لعدم امتثال إيران للقرارات الدولية. فبالإضافة للقرار رقم 479 بتاريخ 28/9/1980 الذي دعا فيه إيران والعراق إلى الوقف الفوري لاستخدام القوة وحل خلافاتهما بالوسائل السلمية، وهو ماوافق علية العراق، الذي أكد على رغبته في وقف الحرب، منذ موافقته على جميع القرارات اللاحقة الصادرة من مجلس الأمن، كالقرار 514 تاريخ 12يوليو 1982، والقرار522 تاريخ  4 أكتوبر 1982 ،والقرار رقم 552 بتاريخ 1 يوليو 1984، والقرار رقم 582 تاريخ 24فبراير 1986 ، والقرار رقم 588 بتاريخ  8 أكتوبر 1986، والقرار الأخير رقم 598 بتاريخ 20يوليو1987.

الحرب في المنظور الجيوستراتيجي:

فرضت العلاقات الدولية إبان تلك المرحلة، والمصالح الذاتية للدول، نوعاً من الرضى، الذي انجر لصالح واقعية موازين القوى، التي وجدت في الحرب، مجالاً لتطبيق سياسة الاحتواء المزدوج، التي أصبحت من خلالها الحرب الإيرانية العراقية، مقدمة للقوى الدولية، في إضعاف موقع العراق في المنطقة.

 قابل ذلك فرصة لتمكين النظام الإيراني، وثورته التي جاءت في سياق دولي تزامن مع فكرة إدخال الإسلام في السياسات الدولية، لاسيما في منطقة الشرق الأوسط، التي بدأت تتبلور فيها ملامح تحول الإسلام السياسي من المشروع الإصلاحي، إلى فكرة المشروع الإسلامي العالمي، الذي شكلت فيه الثورة الإيرانية نموذجاً يحتذى به.

الفكرة ذاتها تزامنت مع تفكيك النظام الإقليمي العربي، بعد اتفاقية كامب ديفيد، وما تركته من انقسامات داخل النظام الرسمي العربي، ما مهد لبروز قوى إقليمية بديلة – في مقدمتها إيران- التي وجدت في الخلاف العربي- العربي، مقدمة للولوج في سياسة تفجير الخلافات العربية وتصعيدها، بدءً من الدور الإيراني في لبنان، الذي أصبح مع  تداعيات الحرب الأهلية، ساحة للتجاذبات الدولية والإقليمية والعربية.

 على صعيد الداخل الإيراني، وجد الخميني في الحرب الإيرانية العراقية، فرصة لتصفية حساباته مع مكونات الطيف السياسي الإيراني، التي لم يشكل فيها – وقتذاك- نظام الملالي قوة على الصعيد السياسي، لاسيما في مواجهة حزب “توده” الشيوعي، الذي أصبح – في حال وصوله للسلطة في إيران- خطراً على موازين القوى بين القطبيين العالميين (الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة)، لاسيما وأن إيران كانت تشكل على الصعيد الجيوبوليتكي، صلة الوصل بين الاتحاد السوفياتي، وأفغانستان السوفياتية حينذاك، ما يعني تمدداً للمعسكر الشيوعي، يمتد من قلب الأرض الأوراسي، إلى كامل منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يهدد ميزة التوازن الدولي مع المعسكر الرأسمالي.

الحرب في إطار مبادئ وقواعد القانون الدولي العام

شكل الرفض الإيراني، لستة قرارات صادرة من مجلس الأمن الدولي، حالة قانونية أخرجت مسألة التوصيف القانوني، للحرب الإيرانية العراقية، عن كونها قضية خلافية بين دولتين عضويين في الأمم المتحدة، بقدر ما شكلت أنموذجاً لفقهاء القانون الدولي، في رفض التدابير الوقتية، التي يتخذها مجلس الأمن الدولي، في معرض فحص النزاع، أو التحقيق فيه، أو التحقق منه، أو  القيام بالوساطة والتسوية، لاسيما وأن الأمم المتحدة، كانت قد حسمت أمورها،  بالقرارات الستة القاضية بوقف إطلاق النار، لاسيما مع الموافقة العراقية على جميع القرارات آنفة الذكر.

ماوراء الإصرار الإيراني على الحرب: في التأسيس لإيديولوجيا الخلافة والتكفير

منذ أيامه الأولى، انفرد الخميني بإيديولوجيا خاصة، فرضها – بادئ ذي بدء- بصياغة الدستور الإيراني، الذي واجه الكثير من الانتقادات التي وصلت إلى حد الخلاف مع المقربين منه في الثورة،لاسيما مع إصرار الخميني، على أدلجة الدستور الإيراني، عندما أصرّ على  المادة  107 التي تنص: ” يعد المرجع المعظم و القائد الكبير للثورة الإسلامية العالمية، ومؤسس جمهورية إيران الإسلامية سماحة آية الله العظمى الإمام الخميني، الذي اعترفت الأكثرية الساحقة للناس بمرجعيته وقيادته”، وهو  ما يتعارض مع احترام دساتير الدول الأخرى، كما يشكل انتهاكاً صريحاً وواضحاً  لمبدأ عدم التدخل في شؤون الغير، كمبدأ متأصل وراسخ في القانون الدولي العام.

شكلت البنية الدستورية للنظام الإيراني السياسي، مدخلاً أراد منه الخميني شرعنة الحرب على العراق، والاستمرار بها كحرب مقدسة.وفي هذا الخصوص، يقول حجة الإسلام محمد مهدي بهداروند: “إن استراتيجية الخميني، تتركز في تحويل الحرب العراقية الإيرانية إلى حرب مقدسة، فشعار حرب حتى النصر، هو من أجل بسط الخلافة الإلهية، لأنه بدون الجهاد لن ينتشر التوحيد في العالم”.

لذلك، ظلت نظرة الخميني للحرب، على أنها عامل توحيد وتكامل للمجتمع الإسلامي، حتى يتحقق النصر الإلهي، وهو ما يفسر أصراره على رفض قرارات مجلس الأمن الدولي، التي اعتبرها خضوعاً للكفر في العراق، وهزيمة أمام الاستكبار العالمي.

وفي ذلك يقول الخميني:”لو يفصلون عظامي، أو يضعون رأسي في حبل المشنقة، أو يحرقونني حياً في نيرانهم، أو يأسرون أولادنا، ويسبون نساءنا أمام أعيننا، فإنني لن أوقع على رسالة أمان مع الكفر والشرك، فالقرآن الكريم يأمر بالجهاد حتى رفع الفتنة من العالم، وعلى أتباع القرآن أن يحاربوا بكل ما أوتوا من قوة حتى يرفعوا الفتنة عن العالم”.

وعلية، يؤسس الخميني من خلال إطالة أمد الحرب، لثقافة يريد أن تكون إيديولوجيا ثورية، ليس في إيران وحسب، إنما في كامل المنطقة العربية، التي اعتبرها في كتاباته امتداداً لبلاد فارس.

لذلك، ما أن تأكد من ترسيخ إيديولوجياته الإسلاموية، في مجتمع علماني غير متدين- كالمجتمع الإيراني- والتخلص من جميع خصومه، أدرك صعوبة ما نادى به، فعاد ليوافق على وقف إطلاق النار، بعد ثمان سنوات من الحرب، مخاطباً الإيرانيين بقوله: “تعلمون أني عقدت ميثاقاً معكم، أني سأقاتل حتى آخر قطرة في دمي، وآخر نفس في صدري، ولكن قرار اليوم، كان من أجل المصلحة، فما قلته كان على أمل رضاء الله ورحمته، وما أرقته من ماء الوجه كان أيضا في سبيل الله”.

خاتمة

أسست فكرة الخميني في إطالة الحرب الإيرانية العراقية، لإيديولوجيا الحرب المقدسة بين الإسلام الكفر. المصطلح الذي أصبح  في مراحل لاحقة، مادة سياسية، شكلت مفصلاً تاريخياً، في تفكير غالبية حركات  الإسلام السياسي في المنطقة، ليس في علاقتها مع الغرب وحسب، إنما في علاقتها مع الأنظمة الحاكمة، التي انعكست أول ما انعكست على التركيبة المجتمعية في البلدان العربية، التي ما أن فشل الخميني في تصدير الثورة إليها عن طريق الحرب كقوة صلبة، حتى انتقلت إلى مرحلة جديدة،  تقوم على فكرة القوة الناعمة من خلال التعبئة الثقافية؛ ونشر التشيع  كنظرية سياسية، أوقعت المنطقة العربية، في تهديدات أصبحت تطال التركيبة المجتمعية في الدول المجاورة، بل وتهدد موقع الشيعة كمكون، اندمج – كغيره من المكونات- في إطار الانتماء الوطني، الذي لم تفلح في النيل منه ثمان سنوات من الحرب الإيرانية العراقية، التي كان للشيعة العراقيين دوراً كبيراً فيها، قبل أن تنجح سياسات التطييف والتطييف المضاد، إلى فرز طائفي مقيت، أوصل العراق إلى الحالة الطائفية الممنهجة، التي أصبحت نصاً دستورياً.

اتسق ذلك مع السياسات الدولية في المنطقة العربية، التي اشتغلت على اقحام الإسلام في الصراعات الدولية، والعمل على تثوير العامل الديني، وحقوق الأقليات، كفكرة تعود في جذورها، إلى مشاريع تقسيم المنطقة، على أسس طائفية وعرقية وأثنية، التي تبلورت مع تنصيب إيران نفسها حامية للشيعة في المنطقة، من خلال الشعار الشهير، الذي نادى به الخميني ” الطريق إلى القدس يمر من بغداد”.

وهو الطريق الذي لم تنجح في تحقيقه الحرب العراقية الإيرانية، بقدر ما شكلت ركيزة جديدة لإيديولوجيا الخلافة والجهاد، التي ظلّ قوامها العداء بدل الإصلاح، والتكفير بدل الدعوة للهداية، والانتقام بديلاً عن الحوار والبناء الداخلي.

 

د. محمد خالد الشاكر

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق