الانغلاق على الذات: الحمائية المتطرفة للجهل

ما عاد بالإمكان ملاحقة السيل المعرفي التراكمي، وأصبحت محاولة التقاط الحدث المعرفي أكثر مشقّةً حتّى على المثقفين وأصحاب الاختصاص، وكـأنّنا في عصر تزداد فيه المعرفة والجهل معاً، ففي حين تُتاح المعرفة –كثيرٌ منها بشكلٍ شبه مجاني-، فإنّ الإتاحة بهذا الزخم والتوالي أنتجت بالمحصلة شرائح واسعةً استقالت من المهمة المعرفية، أو بالأصح، ربّما فضّلت التقاعد المعرفي، والاكتفاء بلحظةٍ تاريخيةٍ معرفية، بما قدّمته لهم، والانغلاق عليها، ورفض التحديثات المعرفية المتوالية.

هذه الاستقالة أو التقاعد المعرفي، هي انطواء على الذات معرفياً، ونكوصٌ لمرحلة كان الفرد قادراً فيها على استيعاب المتغيرات المعرفية دون كثير عناء، وسيتطوّر هذا الانطواء إلى نوعٍ من التطرّف المعرفي، الذي يُحضِّر صاحبه لرفض الآخر ومنتجاته الفكرية، وإن كان يستهلك فوائدها، إلّا أنّه يظلّ رافضاً لها معرفياً.

هذا التطرف، وإن كان موجوداً لدى الجماعات الأيديولوجية منذ زمن، والتي اعتمدته وسيلة للدفاع عن أيديولوجيتها، إلّا أنّه هنا يتحوّل من حالةٍ واعيةٍ أيديولوجياً مقصودة الفعل والأهداف، إلى حالة هروبٍ فرديٍ غير واعٍ، يؤسّس لمزيدٍ من التطرف في بيئتنا العربية، وخصوصاً أنّ الحالة الثانية تأتي مترافقة مع انهيارات جديدة –ليس في المستوى المعرفي فحسب، بل في كيان الدول الحاضنة للمجتمعات العربية، ومنه في منظوماتها القيمية والسياسية-.

كثيرٌ من الأفراد –وهنا الحديث عن المتعلمين، معاهد متوسطة وجامعات-، بدأنا نصادف فيهم، مؤخراً وبكثرة، هذه الانطوائية المعرفية على الذات، في محاولة للتغطية على استقالتهم المعرفية، والنكوص إلى مرحلة ما قبل التنوّر التعليمي، والاكتفاء بأساسياتٍ تمّ الاستحصال عليها في المراحل السابقة، وهو ما قادهم إلى مرحلةٍ جديدةٍ من الجهل في البيئة العربية، أي المتعلمون الجهلة، وهم الذين ما عادوا قادرين على التفاعل مع المتغيرات المعرفية، وفضلّوا حالة الاستسلام لموجة التجهيل –المتعّمد من السلطات العربية أو وكلائها-.

حتى هذه اللحظة، تبقى الحالة سلبية غير خطرة، أو أنّ خطرها وتهديدها غير قائمٍ بشكلٍ مباشر، بل في المدى المتوسط والبعيد، إلّا أنّها في المقابل تحوّلت عن ذلك إلى الدفاع عن الذات، برفضها أولاً التوصيف السابق كليةً، ثمّ اعتبارها أنّ المرحلة التي تعيشها –ودون الإقرار بحالة الانسحاب أو الاستقالة المعرفية والاستسلام لموجات التجهيل-، هي الأساس في بناء المجتمعات. وثالثاً رفض كلّ إضافة معرفية على المخزون المتهالك لديها، واعتباره استهدافاً لها ولاستقرارها وأمنها المزعوم –مؤامرةٌ خارجيةٌ بأيدٍ داخلية-، وصولاً إلى اعتبار الآخر –الذي ما زال فاعلاً معرفياً- خطراً وجودياً يجوز –وربّما يجب- استئصاله من المجتمع، بغضّ النظر عن أدوات الاستئصال –اعتقال، تصفية، تهجير، تضييق معاشي، ..-.

وبالتأكيد، فإنّ هذه الشرائح هي بالأساس عابرة للثقافات المحلية، أي أنّه بإمكاننا ملاحظتها لدى الإسلاميين والعلمانيين وأصحاب الأيديولوجيات السياسية بل وحتّى لدى العامة، في تمازج غريب من نوعه، يوحي لوهلة أنّهم أكثرية ذات نمطٍ واحد، في حين أنّهم أقليات تتبع ذات المنهج في مواجهة بعضها البعض، وفي مواجهة الأقلية الأخرى والأهم –على الجانب الآخر تماماً- التي أنتجتها الثورات العربية، وهي الأقلية المؤمنة بالحرية الفكرية والسياسية والتفاعل المعرفي الدائم والمنفتح.

ومن الملاحظ في الشرائح السابق ذكرها –المنغلقة-، أنّها في جميعها تؤيد الاستبداد وقوى إقليميةٍ ودوليةٍ مُحتلَّة لأوطانها، لكنها تختلف فيما بينها على شكل الاستبداد وجهة الاحتلال، ففي حين نلحظ أن قسماً منها –في دول الثورات- يؤيد استبداد السلطات والاحتلال الحافظ للسلطة على كيانها، ويجد له مبرِّراً في كثيرٍ من المواقف، بل وحتّى في ادّعاءات أنّه لا توجد ديمقراطية حقيقية على المستوى الكوني، وفي ادّعاءات أنّ المجتمع –أو شرائح منه- لا يستحقّ الحرية وصولاً إلى ادّعاء أنّه لا يستحق الحقّ في الحياة. فإنّ قسماً آخر يرفض هذا الاستبداد السلطوي، فيما يبرّر الاستبداد الديني بذات المنطق والأدوات، بل ويستدرجه، وما يترافق معه من احتلالات أخرى، ولكلّ نمطٍ استبدادٌ يسعى إليه.

حيث يميل مؤيدو السلطات المستبدة في دول الثورات-الشرائح المنغلقة معرفياً- إلى تأييد كلّ أشكال الاحتلال الإيراني والروسي، حيث يحفظ للسلطة كيانها، فيما يؤيد خصومهم أشكال الاحتلال الأخرى –قوى إقليمية أو دولية أخرى، أو منظمات هي في الحقيقة إرهابية-.

كلا الطرفين لا يكتفي بالاستقالة المعرفية وإيكال المهمة للسلطة التي يؤيدها –نظام حاكم أو تنظيمات-، بل يتصدّى بعنفٍ وتطرّفٍ بالغٍ لمهمة تصفية الآخر المخالف، بل كثير منهم يتجاوز مرحلة الابتهاج بهذه التصفية إلى الاستعداد للمشاركة فيها، وذلك ليس من مبدأ مخالفةٍ سياسيةٍ أو أيديولوجيةٍ بقدر ما هو نوع من الحمائية المتطرّفة للذات وللجهل من الانفتاح على الآخر فكرياً وهوياتياً وسياسياً.

هذا السعي نحو الاستبداد، والذي هو أحد أبرز مميزات خطاب هذه الشرائح، هو في الأساس آلية لحماية الذات من الانفتاح على الآخر، أو آلية لحماية الجهل، وحماية الذات من الإرهاق المعرفي، والبحث عن مخرجات نظرية جاهزة تبرِّر وتجاوب وتُقنِع الذات المؤمنة بها فقط، دون قدرتها على إقناع الآخر، فالمطلوب هو إقناع الذات بأنّ انسحابها المعرفي، وهذا الشكل المتطرّف من الحمائية للجهل الذاتي، هو سلوك سليم من جهة، وأنّها هي الوحيدة التي حازت الفعل المعرفي الكامل والنهائي والمُنجَز. وذلك قبل أن يتحوّل الاعتقاد هذا إلى تنصّل من مسؤولية إعادة بناء المجتمع والدولة من جهة ثانية، وإيكال المهمة لجهاتٍ سلطويةٍ تتوافق مع المخزون المعرفي المتهالك لدى هذه الشرائح، أي جهةٌ سلطويةٌ تتوافق معرفياً معها، ولا تجبرها على الانفتاح.

عبد القادر نعناع

باحث وأكاديمي سوري

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق