الأحزاب اليمنية في مهمة ضد التاريخ المعاصر

لقد شهدت اليمن في منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين الماضي مولد الظاهرة الحزبية، في ظل الحركة الوطنية المعارضة لنظام الحكم (الإمامي الثيوقراطي في شمال اليمن) والاحتلال (البريطاني في جنوب اليمن)، ولكن لم تتبلور ملامح العمل الحزبي إلاّ في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، حيث مثلت  ميلاد دورة  في الصراع  النضالي  ضد ثنائية الاحتلال الداخلي (الإمامي)، والخارجي (البريطاني) لشطري اليمــن (آنذاك)، وتمكنت من إسقاطهم بثورتي (26 سبتمبر1962م، في الشمال، وثورة 14 أكتوبر 1963م، و30 من نوفمبر 1967م، في الجنوب).

وعند تلك النقطة التاريخية توقفت المهمة الايجابية لتلك الأحزاب، حيث بدأت دورة جديدة في الصراع، ولكن مع ذاتها المتكاملة كمنظومة ثورية، ومع أبناء المجتمع الذين ناضلوا في سبيل الحرية والاستقلال، متجاوزة مفهوم بناء الدولة المدنية الحديثة، لرغبتها في الاستيلاء على السلطة كحالات أيدلوجية فردية، مما أدى بالنخب الحاكمة إلى إصدار النصوص القانونية، والدستورية التي تحرم الحزبية، كما في دستور الشمال لعام (1963-1970م)، ودستور الجنوب لعام (1967-1978م).

وترجمت النخب الحاكمة ذلك في خطاباتها بأنّ (لا مكان للحزبية في اليمن ..، وأنّ الحزبية تبدأ بالتأثر وتنتهي بالعمالة ..، وأنّ الحزبية تعني التشرذم، وخلق التكتلات، والصراعات الضارة .. وبأنّها مرفوضة في اليمن تحت أي مسمى أو قناع لأنّها تقوم على أساس عملات خارجية)، ولكن مع الإعلان عن قيام الوحدة اليمنية 22 مايو 1990م، والسماح بالتعددية السياسية والحزبية، شهدت الساحة اليمنية حراكاً سياسياً كبير، في تشكيل أحزاب أخذت الطابع الارتجالي لقيامها، وذلك لانعدام الوعي السياسي، وقد اعتراها القصور الفكري، والهشاشة التنظيمية، وضآلة فاعليتها في ممارسة النشاط السياسي.

إلاّ أنّ لجنة شؤون الأحزاب التي تشكلت عام 1992م، قامت بتسجيل (22) حزباً من أصل (46) حزباً، تنطبق عليها الشروط الحزبية، ويحق لها ممارسة النشاط السياسي. وذهبت تلك الأحزاب في أيديولوجياتها (الاسلامية والقومية واليسارية) إلى ممارسة العملية الديمقراطية، والتي تمثلت في الانتخابات البرلمانية لأعوام (1993-1997-2003م)، والانتخابات الرئاسية لعامي (1999-2006م)، والانتخابات المحلية لعامي (2001-2006م)، وفي تشكل التحالفات والتكتلات، كـ (التكتل الوطني للمعارض “1993م”، والائتلاف الوطني الديمقراطي “1995م”، ومجلس التنسيق الأعلى “1995م”، والمجلس الوطني للمعارضة “1995م”، وتكتل اللقاء المشترك للمعارضة “2003”م).

ومثلت بعض تلك التكتلات قوى معارضة لنظام الحزب الحاكم، إلاّ أنّ بعضها كانت كـ (المجلس الوطني المعارض)، تمثل حالة من معارضة المعارضة لا تنضوي تحت راية الحزب الحاكم (المؤتمر الشعبي العام “آنذاك”)، وما تزال في حالة تحالف معه في العمل السياسي حالياً. أما تلك الانتخابات فلم ينتج عنها أي تطور للعملية  الديمقراطية، بسبب اكتفاء بعض تلك الأحزاب، وخاصةً الحزب الحاكم من العملية الديمقراطية بالانتخابات المزورة ، ولذا كانت الانتخابات البرلمانية تعد كذبة إبريل، لأنّها كانت تتم في ذلك الشهر، وأثبت كذلك الحزب الحاكم، والأحزاب السياسية المعارضة أنّ ممارساتها تبتعد عن المبادئ والخطط ، والبرامج التي التزمت بها ودعت اليها، وحددتها كإطار لعملها الانتخابي. واستمرت في حالة من غياب الاستراتيجية الوطنية، لانفصال الممارسة عن الشعارات النظرية لديها، ولجعل أيدولوجياتها توجه برامجها “السياسية والاقتصادية والاجتماعية”، وليس العكس، ولانعدام العلاقات بين المستويات التنظيمية للحزب؛ لأنّ المركزية هي الأساس في منهجه الديمقراطي. وفي ظل انفراد حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم المستمر في السلطة من واقع نتائج الانتخابات، التي تمكن من خلاله من السيطرة الكاملة على مؤسسات الدولة، والاستحواذ على الوظيفة العامة والمال العام منذُ عامي1997 -2011م، وأدى ذلك إلى تراجع التعددية الحزبية، وأصبح الفضاء السياسي محدداً بعدد من الأحزاب السياسية، وغابت أسطورة الديمقراطية اليمنية لغياب النخب السياسية الحاكمة الملتزمة بالديمقراطية، ولضعف تطور مؤسسات المجتمع في اليمن.

حتى إنّ عمل أحزاب اللقاء المشترك المعارضة اقتصر من عامي 2003-2011م، في مشروع المعارضة التي تنشد اصلاح النظام السياسي فقط، في ظل استشعارها المسبق في العجز في فرصة الحصول على السلطة.

وقد جاء اندلاع ثورة 11 فبراير 2011م، في محاولة للتخلص من الهوية الحزبية الحاكمة التي استخدمت الديمقراطية لممارسة الرقابة على المجتمع، ولم تكن وسيلة تمكن المجتمع من مراقبة الدولة، إلاّ أنّ انخراط أحزاب اللقاء المشترك في الثورة كان هناك إرادة صادقة للقواعد الحزبية الجماهيرية لتلك الأحزاب في حلم تغير المسار الديمقراطي لتمكن من بناء الدولة اليمنية، وجعلها في مسابقة مع الوحدات الدولية في التطور الحضاري المعاصر. لكن القيادات العليا لتلك الأحزاب استطاعت الإرادات الخارجية “الإقليمية والدولية” من إدارتها، مما مكنها من احتواء الفعل الثوري، والتعامل مع الحالة الثورية كحالة منطوقة في الخطابات السياسية، وتغيب الواقع الاجتماعي في امتلاكها لرؤية وطنية لبناء الدولة المدنية الحديثة أثناء الثورة.

وفي ظل التسوية السلمية التي أتت بها المبادرة الخليجية تم تقسيم السلطة بين حزب المؤتمر الشعبي العام وحلفاءه، وأحزاب اللقاء المشترك وشركاءه، ، وذهبت تلك الأحزاب في الاستحواذ على السلطة ، وبدأت مهمتها التاريخية في إيجاد بوصلة موجهه عكس عقارب الزمان في التغيير، من خلال العجز في  نقل الأفراد من مجتمع القبيلة واللادولة إلى مجتمع الدولة، بل استحكمت على الإبقاء على مفهوم اللادولة في اليمن، لغياب الحضور التاريخي المناضل لديها في ظل الخصوصية اليمنية، وجعلها في ارتهان مستمر للقوى الخارجية التي تعمل على  تجاوز السيادة الوطنية وحرمان اليمن من أخذ مكانه الإقليمي الطبيعي.

  حتى إنّ هذه الأحزاب تعمل اليوم في ظل مواقعها المخصصة في السلطة لإدارة المرحلة الانتقالية، على تكريس الشخصية الحزبية في العمل السياسي، وفي مسار لا يعترف بالتداول السلمي للسلطة في المرحلة المستقبلية، وتنتهج منظومة الإصلاح السياسي والاقتصادي في انفصال بين القول والفعل، وتكرس لثقافة الخطاب التصادمي عبر وسائلها الإعلامية لتكيفها على التجاذبات السياسية. لأنّ الفهم السياسي ما يزال غير ناضج عند تلك الأحزاب، مما أدى إلى ضعف الحامل الاجتماعي لها اليوم.

 ولذا يجب أنّ تستمر الحالة الثورية في شرعيتها الشعبية لإكمال مسار التغير الشامل؛ لأنهّا الضمان لحقيقي وصمام الأمان للتحول الديمقراطي الحقيقي والتداول السلمي للسلطة في المستقبل القريب إنّ شاء الله. حيث لا يمكن استيعاب التوترات الاجتماعية والسياسية والأمنية التي تعيشها اليمن اليوم، إلا بالتحول الديمقراطي الحقيقي الذي يعتمد على التوافق على قواعد العمل السياسي بعيداً عن المرجعية الحزبية.

ويجب أنّ تعرف جميع تلك الأحزاب اليمنية المعاصرة بأن الشعب اليمني لم يعدُّ يمتلك ذاكرة مثقوبة.

 

د. جهــاد عبـد الرحمن أحمد صالح

باحث ومحلل سياسي

خاص بمركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

الوسم : اليمن

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق