إيران، ومأزق وحدة البيت الشيعي في العراق

لم يأت من فراغ القرار الإيراني، بشأن البدء بحكومة وحدة وطنية في العراق، في إطار ما أسمته بـ “المصالح العليا للبلاد”. فحسابات إيران خلال ثمان سنوات من التمكين لسياساتها في العراق، لم تكن بالأساس في إطار ما ادعته، اللهم إلا إذا كان قصدها الرغبة في استمرار وحدة البيت الشيعي، الذي بدأت تلوح في الأفق ملامح الصراع بين مكوناته، سواء منها المكونات السياسية، التي تتبع ولاية الفيقيه في قم، أو مكونات البيت الشيعي الإجتماعية، التي تتبع للمرجعية التاريخية في النجف.

  تشكل مرجعية النجف السواد الأعظم من الشيعة العرب في العراق، الأمر الذي يضع إيران أمام استحقاقات المرحلة الجديدة، التي أخذت على عاتقها مسألة حكومة الوحدة الوطنية، كبداية للخروج من الأزمة العراقية. وهو ما يضع إيران أيضاً أمام تحديات تأتي في سياق يتعارض ونظرتها الاستراتيجية – سياسياً -، لتتعداه إلى تحديات تتعلق بالولاء المجتمعي في العراق، الذي تشكل فيه مرجعية النجف، موقعاً يختلف في تعاطيه مع إيران من الناحيتين السياسية والعقيدية.

أصبحت إيران، بعد الأحداث الأخيرة في العراق، أمام مأزق استراتيجي جديد، يهدد مصالحها، وفي مقدمتها تأمين البعد الاستراتيجي للمصالح الحيوية الإيرانية، لاسيما وأن أحداث الموصل، شكلت تهديداً لامتداداتها الجيوسياسية، في سورية ولبنان.

فرضيتا المأزق الإيراني سياسياً ومجتمعياً، كانتا وراء نزول إيران إلى الرغبة الدولية والإقليمية، والركون لحكومة وحدة وطنية، بعد أن كانت صاحبة القول الفصل في الملف العراقي إقليمياً.

في هذا الإطار، كشف حزب الدعوة الإسلامية في العراق، ” إن قرار الموافقة على رئيس الوزراء الجديد جاء بعد التوجهات التي أبداها المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السستاني”، الذي وجه بضرورة الإسراع في اختيار رئيس وزراء جديد، يحظى بقبول وطني، لاسيما بعد فشل إيران في تذليل الخلافات داخل البيت الشيعي العراقي، مما جعل إيران في عزلة سواء على صعيد الداخل العراقي، أو على الصعيدين الدولي والاقليمي،  بدءً من   التفاهمات الأمريكية الإيرانية، وانتهاء بالضغط السعودي في جميع الاتجاهات، نحو  ضرورة الوصول إلى عملية سياسية في العراق، تبدأ بحكومة وحدة وطنية، كمقدمة لحل العديد من القضايا التي تقلق المنطقة، وتمهد للانهيار الكلي للعراق. الحال الذي أوصل إيران إلى نقطة اللاعودة.

دولياً، المتتبع لتاريخ العلاقة الأمريكية الإيرانية في العراق، يلاحظ مدى التوافق بين البلدين في الشأن العراقي، فمنذ العام 2006، أدى الاتفاق بين الولايات المتحدة والتوجهات الإيرانية، إلى اختيار المالكي على حساب الجعفري، كما انتهى التفاهم الأمريكي الإيراني إلى إعادة انتخاب المالكي سنة 2010، على حساب إياد علاوي، في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة، قد استمرأت اللعبة الإيرانية في إقصاء المكون السني المحسوب على المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأمريكي؛ قبل أن تتحول مشروعية المقاومة كموحد لجميع المكونات العراقية، إلى شرعنة للاحتلال، اسهمت فيه الأحزاب السياسية الشيعية التابعة لمرجعية قم في إيران، التي اختلفت في ذلك، مع الأحزاب السياسية الشيعية، التي تتبع لمرجعية النجف، مما حال دون دخول الأخيرة، في العملية السياسية التي قادتها إيران في العراق. بالإضافة لإقصاء المكون السني، الذي أدى تجاهله إلى تداعيات، أصبحت تطال مصالح الولايات المتحدة وإيران على حد سواء.

وعلى هذا الأساس، تظهر رغبة مكونات البيت الشيعي – النجفي، في تشكيل حكومة وحدة وطنية، تضم جميع أطياف المجتمع العراق، بما يؤمن وحدة العراق واستقراره، وذلك بإدماج المكون المكون السني، كما المكونات الشيعية التي همشتها إيران، لصالح سياسات ولاية الفقيه، توازي ذلك مع ترحيب دولي وإقليمي، أملاً بالخروج من تداعيات مايحصل على الساحة العراقية.

إذاً، يقف العراق الآن، أمام منعطف تاريخي، لاسيما وأن الخارطة السياسية العراقية، أصبحت محكومة بتداخلات صعبة، سياسية، ومذهبية، وإثنية، خلفتها تراكمات ثمان سنوات من الاستئثار الإيراني بالسلطة وتطييفها، قبل أن تتحول مسألة الاستئثار الطائفي -الحزبوي، إلى استئثار بمقدرات العراق، أفرزت تزاوجاً خبيثاً بين المال والسلطة، لم ينعكس على المكون السني وحسب، بل انعكس على وحدة البيت الشيعي نفسه.

لقد حاولت إيران مراراً، أن تُظهر وحدة البيت الشيعي تحت الغطاء المذهبي، وبمسمى ” التحالف الوطني”، الذي يشكل بيضة القبان داخل البيت الشيعي، كونه صاحبة المقاعد الأكثر في البرلمان، إلا أن الممارسة الإيرانية الإقصائية لجهات بعينها من الشيعة، محسوبة على المرجعية في النجف، حال دون المحافظة على البيت الشيعي في العراق بشكل عام، التحالف الوطني (الشيعي)، بشكل خاص. لذلك قررت القوى الشيعية المضادة، استعدادها للوقوف بوجه ما طالها من تهميش، الامر الذي أفرز انقساماً حاداً داخل البيت الشيعي ذاته، لاسيما وأن أحداث الموصل أثبتت بما لايدعو للشك، هشاشة سياسات الموقف الإيراني في العراق، فالجيش ذي العقيدة الطائفية الذي دعمته، تحول بنظر الشيعة العراقيين، إلى نمر من ورق، غير قادر على حمايتهم، بعد أن أخفق في حماية البلاد.

وفي هذا الخصوص، تشير دراسة أعدها معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، “أن الجيش العراقي، الذي في غالبيته من الشيعة، لن يكون قادراً بمفرده على فرض السيطرة وبسط الاستقرار، لأن وجود هذا الجيش، لن يؤدي إلا مفاقمة الأزمة الأمنية، فالعرب السنة ينظرون إلى وجود هذا الجيش، بمثابة اجتياح جديد”.  وهو مادفع المرجعية الدينية الشيعية، إلى البحث عن بدائل للمسار السياسي في العراق، لاسيما وأن إيران فشلت في الاستعانة بالميليشيات الشيعية المسلحة، مثل منظمة بدر، وعصائب أهل الحق، ما وضع القوى السياسية الشيعية العراقية، أمام الأمر الواقع، الي أصبح ينذر بتداعيات أخطر، لن تهدد البيت الشيعي وحده، بل تتعداها إلى تهديد موقع إيران في الخارطة الإقليمية.

لقد فشلت –وحتى اللحظات الأخيرة- في الالتفاف على مطالب غالبية مكونات البيت الشيعي، التي جاهرت -ولأول مرة في تاريخها- برفضها للرغبة الإيرانية في الإبقاء على الوضع الراهن، بعدما لمست عجز إيران عن حمايتها في مواجهة تداعيات أحداث الموصل، التي أصبحت تؤرق المكونات الشيعية العراقية، وتهدد مسألة وحدة العراق.

في مواجهة ذلك، انصاعت إيران للحفاظ على ماتبقى من ماء وجهها، للمحافظة -قدر الإمكان- على نفوذها في العراق، بالرغم من الاحتمالات، التي قد تترك الباب مفتوحاً للمكونات الشيعية الاخرى، خصوصاً التيار الصدري، والمجلس الشيعي الأعلى، كمكونيين لاتؤيد إيران وصولهما إلى سدة السلطة في العراق، لما تتمتعان به من طابع استقلالي سياسي وجماهيري، ولما لهما  أيضاً، من رصيد لدى الطبقات التي تؤيد المرجعية النجفية، على حساب مرجعية قم.

معادلة تصطدم بها إيران في عراق اليوم، الذي يقف على أبواب تفلته من الارتباط الحزبوي-التشيعي، لصالح ما يلوح به الأفق من تجاذبات سياسية، قد تمهد لمرحلة وطنية، وهي المرحلة المرهونة بمتابعة مادأبت عليه القوى التي نجحت في حلحلة عقدة التمكين الإيراني في العراق.

 

د. محمد خالد الشاكر

خاص بمركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق