إشكاليات الديمقراطية في إيران (2)

إشكاليات الممارسة

مقدمة:

تناول القسم الأول من هذه الدراسة، إشكاليات تأصيل الديمقراطية في إيران، عبر دراسة إشكالية المرجعية الفكرية وإشكالية تشكل السلطات وتقسيمها. وأوضح كيف تم نقض عدة أسس للديمقراطية منها مرجعية الشعب كمصدر للسلطات، وفصل السلطات، وسلمية انتقال السلطة. وفي هذا القسم سيتم تناول إشكاليات الممارسة الديمقراطية، عبر دراسة إشكاليات العمل الحزبي، المجتمع المدني، المركزية السياسية، المشاركة السياسية للأقليات.

 

أولاً- إشكالية العمل الحزبي:

تعتبر الأحزاب أحد ركائز النظام الانتخابي الديمقراطي، إلا أن التجربة الحزبية في إيران لم تؤدِ إلى حدوث تغيير جوهري داخل النظام السياسي، حيث أن هناك العديد من الأحزاب محدودة القواعد الجماهيرية، كما أنها تعاني من عدم تبلور أطرها الفكرية والسياسية، وخاصة ضمن هيمنة التيار الديني المسيطر على الحياة السياسية ككل (1).

فقد عملت سلطة خميني منذ البداية على التخلص من كافة الحركات السياسية الوطنية المنافسة لها خارج الإطار الديني، فتمت إقالة أول حكومة كانت برئاسة مهدي بازركان رئيس حزب (نهضت آزادي إيران) ووزير خارجيته إبراهيم يزيدي. وعزلت القيادي الليبرالي أبو الحسن بني صدر (أول رئيس إيراني بعد ثورة 1979) قبل هروبه إلى فرنسا. كما تمّ إعدام رئيس البرلمان جواد سعيد وتصفية بقية عناصر حزبه (رستاخيز). فيما اتهم الحزب الشيوعي (توده) بالعمالة والخيانة خاصة إثر تواصله مع الأقليات، وأُعدِمت قياداته بإشراف هاشمي رفسنجاني. عدا عن الملاحقات والاعتقالات والإعدامات التي طالت أعضاء تنظيم (مجاهدي خلق). وتعتبر معظم هذه الحركات، قوى أساسية ساهمت في إسقاط نظام الشاه، وساندت الثورة ضده، طيلة العقود السابقة لها، قبل أن تتم إزاحتهم من المشهد السياسي لصالح التيار الديني.

فكان من أول الأحزاب التي تم تشكيلها (جمهوري إسلامي)، الذي لم يوافق خميني عليه بداية، لكنه اضطر لشرعنته حتى يملئ الفراغ السياسي الحاصل بعد إقصاء التيارات السياسية الأخرى، ولم يتبق منه سوى صحيفة تحمل اسمه.

وتم تشكيل حزب (جبهت مشاركة إيران إسلامي) عام 1997 ضمن الإطار الديني الإصلاحي، الذي يؤمن بإسلامية الدولة، وشرعية الولي الفقيه، لكن مع تحديد سلطاتها، معتمداً على أفكار علي شريعتي ضمن فهم اشتراكي إسلامي. ومن أبرز أعضائه محسن ميردامادي الذي كان من العناصر القيادية في أزمة الرهائن الأمريكيين، وسعيد حجاريان من مؤسسي الاستخبارات الإيرانية الإسلامية.

كذلك يظهر حزب ( كارگزاران سازندگي = كوادر البناء)، الذي أُسِّس في عهد رفسنجاني لتكون ابنته فائزة من أبرز أعضائه، ويصنف هذا الحزب ضمن الإطار السلطوي الديني المعتدل، دون أن يمسّ بولاية الفقيه، معتمداً على الفهم الاقتصادي التقليدي.

وكان مهدي كروبي قد أسس كذلك حزب (اعتماد ملي = الثقة الوطنية) منفصلاً عن الجبهة الإصلاحية، متطلعاً إلى الانفتاح على الغرب، ضمن سياق اقتصادي محافظ.

لكن الأبرز كان (سازمان مجاهدي إسلامي إيران = منظمة مجاهدي إيران الإسلامية) التي تعتبر ذراعاً إصلاحياً، أنيط بها قمع تحركات الأقليات، ومقاومة ليبرالية بني صدر، تحت إشراف قوى الحرس الثوري الإيراني. ويبقى الاتجاه الأصولي بقيادة المرشد علي خامنئي متمثلاً في حزب (مؤتلفة إسلامي) المعتمد على الكتلة المحافظة والمتشددة في الحوزات الشيعية.

ويعتبر حزب الله من أقدم الاتجاهات السياسية في نظام الحكم، فقد ظهر مباشرة وبالتحديد بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران ضد النظام الملكي. وكان أهم ما يميزه عن سائر الاتجاهات الدينية الثورية في قيادة الثورة آنذاك، هو اعتقاده بضرورة وجود “مؤسسات ثورية خارج جهاز الدولة” وذلك من أجل ضمان سلامة النظام الجديد إزاء النظام البهلوي المنهار (مثل الجهاز العسكري الفاعل والبيروقراطية الحكومية المركزية).

لكن في المقابل، تتنوع المروحة الحزبية المعارضة خارج إيران، لتضم عشرات الأحزاب من كافة التيارات والمراجع الفكرية، وخاصة الإيديولوجية والليبرالية العلمانية. وقد تمّ ذكر بعض منها في الجزء الأول من هذه الدراسة.

كما تتنوع التشكيلة الحزبية الأقوامية ومرجعياتها بشكل كبير، رغم التضييق والملاحقات والاعتقالات. منها على سبيل المثال:

الأكراد: حزب العمال الكردستاني، الحزب الديمقراطي الكردستاني.

البلوش: حزب الجبهة المتحدة، حزب الشعب البلوشستاني.

الآزر: حزب الحركة الديمقراطية الاتحادية، الحزب الديمقراطي الآزري.

التركمان: حزب الحركة الوطنية الديمقراطية التركمانية، الحركة الوطنية الإيرانية لتركمنستان.

اللور: حزب لورستان المتحدة.

العرب: يشهد العمل الحزبي العربي في إيران، نشاطاً كبيراً، يتجلى من خلال العدد الواسع للأحزاب، ولعل من أبرزها وأنشطها في الداخل الإيراني: حرکة النضال العربي لتحرير الأحواز، جبهة العربية لتحرير الأحواز(عربستان)، حزب الوفاق الإسلامي، الجبهة الديمقراطية الشعبية الأحوازية، التيار الوطني العربي الديمقراطي في الأحوازي، حزب التضامن الديمقراطي الأحوازي

ولابد من التأكيد مرة أخرى، أنّ معظم التكتلات الحزبية الأقوامية والفارسية المعارضة، هي تنظيمات محظورة في القانون الإيراني، وملاحقة من قبل الأجهزة الأمنية، حيث تم اعتقال وإعدام العديد من نشطائها خلال العقود الماضية.

 

ثانياً- إشكالية المجتمع المدني:

إن الوظيفة الأساس للمجتمع المدني تكمن في عقلنة سلوك السلطة السياسية وترشيده وضبطه باتجاه تأسيس وترسيخ المسار الديمقراطي التعددي والمحافظة عليه، ومنع انزياح السلطة نحو الاستبداد. وترتفع بشكل مطرد آليات هذا المجتمع وفقاً لارتفاع مدى تطور النظام السياسي في الدولة وحجم دمقرطته، ومستوى الوعي الجمعي.

كما تتنوع التنظيمات غير الحكومية التي تصنف ضمن مفهوم المجتمع المدني وفقاً لذات المعايير. لذا فهو يشمل كافة التنظيمات التي تنشط خارج إطار السلطة بهدف تكريس الممارسة الشعبية من جهة، وانتزاع الحقوق منها. ليشمل التنظيمات النقابية وجماعات المصالح والضغط، والاتحادات الشعبية (طلبة، نسوية، بيئية، دينية…).

ويتطلب تشكّل تنظيمات المجتمع المدني، حيزاً من الوعي الجمعي السياسي والتشاركي بين المواطنين، لذا عمل النظام الإسلامي الإيراني على عدة محاور في سبيل محاصرة هذه التنظيمات:

تذرير المجتمع الإيراني وتحويله إلى مجتمع غير سياسي.

محاصرة سبل التواصل المدني غير السلطوي في الداخل.

خلق حدود سياسية للعمل في المجتمع، تتوافق مع الحدود المذهبية-القومية للنظام ذاته.

إغلاق سبل التواصل مع المنظمات الدولية غير الحكومية.

ملاحقة النشطاء المدنيين واعتقالهم، بل وإعدامهم، وتسخير القانون للتضييق عليهم.

حيث لا زالت إيران تعاني من أزمة في مثل هذه النوعية من مؤسسات المجتمع المدني، وتبقى محدودة التأثير، نتيجة الخلفية الإيديولوجية للنظام الذي يعتمد على سيطرة النخبة الدينية الحاكمة التي تتمتع بامتيازات دستورية واسعة وبسيطرة فعلية كاملة على حركة مؤسسات النظام السياسي الإيراني، بغض النظر عن تعددية التيارات السياسية في داخل هذه النخبة الدينية الحاكمة. وانعكس هذا الفراغ المؤسساتي في جانب مدخلات النظام السياسي الإيراني في تفاعل معارضة ضعيفة مشتتة وغير منظمة لفئات محبطة من المجتمع، مثل الأساتذة والشباب والعمال والطلبة والنساء والفنانين، في مواجهة وجود مؤسسات قوية ومنظمة مؤيدة للنظام، تعمل في البيئة الداخلية للنظام السياسي بصورة شبه رسمية، مثل الحرس الثوري ومؤسسة المفقودين ومؤسسة الشهيد التي تخضع للدولة. ولم يكتفِ النظام بوجود مؤسسات شبه رسمية تتمتع بامتلاك آليات قسرية مثل الحرس الثوري، أو جمعيات يغدق عليها النظام من موارد الدولة مثل مؤسسة المفقودين ومؤسسة الشهيد لتعمل من خلال البيئة الداخلية لتأييد النظام، بل إن النظام طور جمعيات أخرى محافظة تعكس ولاء عقائدياً لنظرية ولاية الفقيه والمؤسسة الدينية المحافظة في النظام السياسي الإيراني، بعضها يرتبط بالمرشد مباشرة مثل: جمعية المؤتلفة الإسلامية التي تسيطر على بازار طهران وتتكون من أشخاص عاديين وعلماء دين وانضم إليها جمعية الحجتية (2).

بل إن النظام الإيراني عمل على التغلغل في تنظيمات المجتمع المدني وأدلجتها مذهبياً وقومياً بحيث تخدم التوجهات العامة للقيادة الدينية-السياسية من جهة، ولملئ الفراغ المدني في المجتمع ومنع بروز تنظيمات خارج الإطار السلطوي من جهة أخرى. فبرزت تنظيمات على شاكلة رابطة الأطباء الإسلاميين، والرابطة الإسلامية للجامعيين الإيرانيين، والرابطة الإسلامية للموظفين، ورابطة زينب النسائية، والرابطة الإسلامية للمعلمين، وسواها من الجمعيات الأهلية الخيرية الدينية المناصرة للسلطة.

رغم هذا التضييق (3)، إلا أن تنظيمات المجتمع المدني شهدت نشاطاً ملحوظاً أواخر التسعينيات من القرن الماضي، وبداية العقد الأول من هذا القرن، في عهد الرئيس محمد خاتمي، الذي وفرّ بعض الإعانات المالية لتطوير قطاع المنظمات غير الحكومية، إلاّ أنه عجز عن توفير ضمانات تمنع تفكيك الحكومة لها. حيث شهدت تلك الفترة تبادلاً أكاديمياً وثقافياً مع المنظمات الغربية غير الحكومية والمنظمات البحثية المشتركة. لكن مع قدوم أحمدي نجاد للسلطة عام 2005، تم رفض تجديد تراخيص هذه المنظمات، ولوحق أعضاؤها، وتم حبس العديد من النشطاء والصحفيين والمدونين وجماعات المجتمع المدني. وسعى نجاد إلى منع تواصل المنظمات الإيرانية غير الحكومية بنظيراتها الغربية، خشية أن تشكل هذه المنظمات بوادر ثورة مخملية نخبوية تطيح بالنظام السياسي في البلاد (4).

 

ثالثاً- إشكالية المركزية السياسية:

يختلف مفهوم المركزية السياسية عن مفهوم المركزية الإدارية، ففيما يعني الأخير مرجعية سلطة إدارية بيروقراطية تحد من تطور الأداء المؤسساتي سواء على مستوى الوزارات أو المديريات الفرعية، وتجمع القرارات بيد المدير الأعلى أو الوزير المسؤول عن القطاع المعين، ولم تعد هذه الإدارات منتشرة سوى في الدول المتخلفة من جهة في الدول ذات السلطات الديكتاتورية كذلك.

فإن المركزية السياسية في المقابل، والتي ما زالت تنتشر في دول عدة في العالم، تعني مرجعية القرار السياسي لسلطة سياسية واحدة، تشكل النظام السياسي للدولة، ضمن فهم شمولي، يمنع ظهور كيانات سياسية فرعية ذات استقلال نسبي. وإن كانت كثير من الدول تأخذ بها، إلا أنها تتطلب شروطاً معينة ليكون أداؤها فعالاً، من ذلك:

نظام حكم مطلق يركز السلطات في يد فرد قائد.

أن يكون شكل الدولة موحداً غير فدرالي.

أن تكون الدولة ذات أغلبية عددية طاغية على المستوى التعدد الثقافي (العرقي والديني).

قد يكون هذا النموذج فعالاً في الدول ذات التاريخ الديمقراطي الراسخ، بحيث لا خشية على النظام الديمقراطي من سلطة سياسية واحدة حينها. رغم أن تلك الدول تتحول نحو اللامركزية السياسية.

في المقابل، فإن اللامركزية السياسية تتفق مع قاعدة إشراك المواطنين في إدارة شؤونهم، وبالتالي في صنع القرار، ومنه تعزيز الحالة الديمقراطية في البلاد.

فرغم أن شكل الدولة الإيرانية هو شكل موحد، إلا أنها تعاني صراعات هوية في معظم الأقاليم الأقوامية (5)، تقوّض شرعية السلطة السياسية المركزية. مما يخلق حدود فصل سياسي متوافقة مع حدود الفصل الجغرافي بين المركز الفارسي والأقاليم الأقوامية. ومنه وجدت شرعيات عدة في الحالة المجتمعية لا تدين في معظمها للمركز السياسي.

ففي ظل هذا التنوع التركيبي للدولة الإيرانية على المستوى العرقي والديني، تغدو المركزية السياسية فعلاً تسلطياً على المجتمع، يفرض توجهاً أحادياً مركزياً، يقابله مقاومات فرعية سياسية واجتماعية، تؤدي في مجملها إلى ضعضة النظام السياسي وانهياره بفعل التجاذبات بين المركز والأطراف.

ولعل النموذج الأنجح في إيران، يكون عبر اعتماد شكل الدولة الفدرالي التعددي، مع مركزية لا سياسية تمنح كل إقليم، أو كل شعب منضوٍ في الدولة الإيرانية، حق إدارة ذاته، وفقاً لمرجعياته السياسية والثقافية، لكن غياب هذا النموذج في ظل نظام تسلطي سيدفع البلاد إلى حالة من التشظي.

 

رابعاً- إشكالية المشاركة السياسية للأقليات:

من الإشكالية السابقة، يمكن البناء باتجاه إيجاد صيغ للخروج من مأزق المركز-الأطراف في الدولة الإيرانية، عبر إقرار التعددية السياسية والأقوامية في الدولة، والعمل على إعادة صياغة شكل نظام الحكم وفق تلك التعدديات. حيث لا أغلبية مطلقة بين الشرائح السكانية المتنوعة.

فمحاولة فرض شكل نظام حكم على أقاليم، ينتابها شعور الغبن السياسي، والتهميش والإقصاء والتفتيت، وصولاً إلى وعي قومي جمعي لدى مختلف عرقيات الأطراف، بأن السلطة المركزية الإيرانية، لا تشكل سوى سلطة احتلال استيطاني في أقاليمهم، في ظل انعدام أي دور لهم على مستوى الدولة في تقرير شكل النظام السياسي، وآليات عمله، أو حتى البت في شؤونهم الخاصة، في ظل انفراد شبه مطلق للعرق الفارسي بتلك القضايا.

إذ ثمة ثلاثة أنواع من الحلول لمعالجة المشاكل السياسية في مجتمع تعددي، مع الحفاظ على طبيعته الديمقراطية (إن وجدت). أولاها، إزالة الطابع التعددي للمجتمع أو تقليصه بصورة جوهرية عبر الاستيعاب، وهي طريقة ذات احتمالات ضئيلة في النجاح، على المدى القصير خصوصاً. أما ثانيها، فهو الحل التوافقي الذي يقبل الانقسامات التعددية باعتبارها لبنات البناء الأساسية لنظام ديمقراطي مستقر. فإذا كان الحل الثاني بعيد المنال، أو إذا ما جرب وأخفق، فإن الحل المنطقي الوحيد الباقي، هو تقليص التعدد عبر تقسيم الدولة إلى دولتين منفصلتين متجانستين أو أكثر (6).

وفيما عملت السلطة المركزية طيلة العقود الماضية على الخيار الأول عبر طمس الهويات الفرعية بشكل شمولي استبدادي، دون أن تنجح في إزالة الطابع التعددي حتى على المدى الطويل، فإن الشعور العرقي المضاد في الأقاليم سيحول بدوره في قبول حل توافقي على الشكل الثاني، في ظل تعنت السلطة المركزية القائم حالياً. ليغدو الحل الثالث هو الأقرب، سواء أكان حلاً رضائياً أم قسرياً. وبالتحديد في ظروف العولمة الأقوامية التي عززت فكرة الحقوق المتساوية بين الشعوب.

إذ عززت العولمة كذلك، الحاجة إلى رسم الحدود –حدود القوميات مثلاً- بدل أن تضعفها. إضافة إلى ذلك، قد يكون لعملية العولمة تأثير آخر –غير الارتفاع بالدولة القومية لتمثيل “المصلحة القومية”- على الساحة الدولية. وهو تفتيت الاتحاد السياسي للمجموعات القومية المركبة للدولة إلى مركباتها الثقافية والإثنية، بحيث تسعى هذه الأخيرة للتحول إلى أمم تحول الحدود الثقافية والإثنية إلى حدود أراضٍ سياسية، وذلك ببعث وتسييس المعتقدات حول الأصل المشترك، والأرض المشتركة، والعلاقة بين المكان والشخصية الثقافية. وتتخذ في هذا السياق مشاعر العنف والتمييز وظلم الجيران أهمية خاصة. إذ تاق الفكر القومي الفاشي إلى تطابق متكامل بين المجتمع والقومية والدولة إلى درجة نفي الفرق بين الأمة والدولة. وعندما تندمج الهوية القومية بالدولة اندماجاً تاماً، تختفي الأمة صاحبة السيادة، كما يختفي المجتمع المدني ليخلفا وراهما ظواهر قومية إثنية وعنصرية وثقافية شعبوية، بدلاً من القومية السياسية المتنورة، وجماهير بدلاً من المجتمع المدني(7).

خامساً- موقع إيران على المؤشر الدولي للديمقراطية:

تُعدّ وحدة الاستخبارات الاقتصادية هذا المؤشر (8)، ويضم تصنيفاً لـ 167 دولة، معتمداً على دراسة 60 مؤشراً في خمس فئات مختلفة: العملية الانتخابية، التعددية، الحريات المدنية، أداء الحكومة، المشاركة السياسية والثقافة السياسية. وصدر منه ثلاث نسخ في أعوام 2008، 2010، 2011. إذ تمثل قيمة 10 أعلى قيمة للديمقراطية، وتنخفض بانخفاض هذه القيمة. وقد صنف التقرير الدول في مجموعات حسب القيم التي تحرزها:

الديمقراطيات الكاملة، القيمة: 8-10.

الديمقراطيات المعيبة، القيمة: 6-7.9.

الأنظمة الهجينة، القيمة: 4-5.9.

الأنظمة السلطوية، القيمة، 0-3.9

حيث احتلت إيران في الإصدار الأخير منه، المرتبة 159 وبقيمة ديمقراطية بلغت 1.99 فقط، متشاركة في ذات الترتيب والقيمة مع سورية. حيث شهدت تراجعاً طفيفاً عن إصدار عام 2010 إذ كانت في المرتبة 158، لكنها شهدت تحسناً يكاد لا يذكر في القيمة الديمقراطية إذ كان يبلغ عام 2010 يبلغ 1.94. متشاركة في المرتبة والقيمة مع ليبيا. لكنها تراجعت بشكل كبير وملحوظ عن عام 2008 حينما كانت تحتل المرتبة 139 وبقيمة ديمقراطية لم تتجاوز 2.93. إلا أنها في جميع تلك الإصدارات، ظلت إيران تصنف ضمن مجموعة الدول التسلطية، كما أنها ظلت في أدنى المراتب الديمقراطية بين جميع جيرانها، حتى أفغانستان.

 

خاتمة:

قدم القسم الأول من هذه الدراسة نقداً لمستوى تأصيل الديمقراطية فكرياً في إيران، مع توضيح أهم العيوب التي تهدم بعض أسس عملية الدمقرطة، ومنها:

انتفاء مرجعية الشعب كمصدر للسلطات، عبر تسيّد مرجعية الإمام الغائب ووكيله المرشد.

إن عملية الفصل بين السلطات، هي عملية جزئية شكلية، تصب في نهاية المطاف في صالح تكريس السلطات جميعها بيد المرشد غير المنتخب شعبياً، بل عبر رجال دين يعينهم بذاته.

إن عملية الانتقال السلمي للسلطة ضمن أتباع التيار الديني-المذهبي المؤمن بالولاية المطلقة، ليست سلمية بالكامل، إذ غالباً ما يتدخل الحرس الثوري لفرض أجندات معينة، أو لقمع اتجاهات لا تحظى بقبول المرشد.

فيما أوضح القسم الثاني، أنه وعلى مستوى ممارسة العملية السياسية في إيران، فقد تم تهديم معظم ما تبقى من أسس ديمقراطية، وذلك عبر:

انتفاء حرية تشكيل الأحزاب، وحصرها بالتيار الديني، الموالي للسلطة السياسية. وملاحقة التشكيلات الحزبية خارج هذه الأطر.

تقويض أسس المجتمع المدني، وإعادة صياغته بشكل قسري، وفق أدلجة قومية-مذهبية.

فيما تختفي حرية التعبير عن الرأي المعارض لهذه السلطة، ضمن سياق الاستبداد الديني.

وتعاني الأقليات من سياسة تهميش وإقصاء وتفتيت، تحرمها من أي دور في المشاركة السياسية على مستوى الدولة، أو على مستوى أقاليمها حتى، ضمن مركزية سياسية فردية.

وكان ميشيل فوكو قد خلص في معرض تحليله للثورة الإيرانية في كتابه “إيران: الثورة باسم الله”، إلى أن “خلط الدين بالسياسة في الحالة الإيرانية أنتج أشكالاً من الاستلاب والقهر والاستبداد والموت”. فبانتفاء معظم المرتكزات الأساسية للعملية الديمقراطية سواء على مستوى التأصيل الفكري، أو على مستوى الممارسة السياسية العملياتية، فإن من العبث إطلاق مصطلح “نظام ديمقراطي” على النظام الإيراني القائم.

 

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

المراجع:

(1) للاطلاع بشكل موسع على التجربة الحزبية الإيرانية، انظر:

أحمد لاشين، “التعددية الحزبية في إيران ووهم الديمقراطية (الأحزاب من الملكية إلى الدولة الدينية)”، الحوار المتمدن، العدد 2723، 30/7/2009، في: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=179638

أحمد كمال البحيري، “خريطة الأحزاب والقوى السياسية في إيران”، الأهرام الرقمي، 1/10/2010، في: http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?Serial=325546&eid=2995

(2) للمزيد حول هذه التجمعات، انظر: طلال صالح بنان، “إيران: معضلة التعايش بين نظرية ولاية الفقيه والديمقراطية”، السياسة الدولية، العدد 155، يناير 2004.

(3) للاطلاع حول قضايا التضييق والاعتقال والملاحقة والتصفية لنشطاء المجتمع المدني في إيران، انظر: تقارير منظمة Human Rights Watch.

(4) Lionel Beehner, “Iranian Civil Society and the Role of U.S. Foreign Policy”, Council on Foreign Relations, July 16, 2007: http://www.cfr.org/iran/iranian-civil-society-role-us-foreign-policy/p13503.

(5) للاطلاع على صراع الهويات في إيران، انظر: عبد القادر نعناع، “صراع الهويات في إيران: بين الهوية الكلية والهويات الفرعية”، 23/10/2013، مركز المزماة للدراسات والبحوث، في: http://www.almezmaah.com/ar/news-view-3058.html.

(6) آرنت ليبهارت، الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد، ترجمة: حسني زينه (بغداد: معهد الدراسات الاستراتيجية، الطبعة الأولى، 2006)، ص 75.

(7) عزمي بشارة، المجتمع المدني: دراسة نقدية (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة السادسة، 2012)، ص 248.

(8) للاطلاع على تقارير المؤشر الدولي للديمقراطية، انظر:

– Democracy Index 2011: Democracy under stress, Economist Intelligence unit: www.eiu.com.

– Democracy Index 2010: Democracy in retreat, Economist Intelligence unit: www.eiu.com.

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق