أمواج التطرف: بين الإرهاب الناعم والإرهاب العنيف

التطرف ينبثق من تربة الانغلاق والتعصب وانعزال الهوية المأزومة وكذلك من النظرة التآمرية ومن الخطباء الشعبويين الباحثين عن دور في أمة تتلقى سماعا وشفاهية خصوصا في ظل غياب علماء يتصدون لمثل هؤلاء، لكن بسبب أن دور التطرف الناعم تحت عباءة الدين، وأن هدفهم المعلن هو إصلاح المجتمع انطلاقا من دينهم.

 لكن لم يتوقف العلماء عند نيات هذه الجماعات في أسلمة المجتمعات، وهناك فرق بين الإصلاح والأسلمة، الأولى الأمر بالمعروف والثانية فرض الدين على المجتمع عن طريق هيمنة هذه المجموعة وتحول تلك الهيمنة إلى سلطة.

 فيما الدين لا يفرض معتقداته على المجتمعات بالقوة وهو يتنافى مع آيات عدية (لست عليهم بمسيطر)، (ما عليك إلا البلاغ)، (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)، (ادعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة). بل قدم الحكمة على الموعظة الحسنة فأي سلطة يتحدثون عنها هذه المجموعة، والتغيير باليد لا يكون إلا للسلطة الحاكمة، وهم يدعون أن السلطة الحاكمة أنابتهم لكن هذا لا يدخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولماذا لا يتنبه العلماء لمثل هذا الخطاب الذي يسمى بالناعم وهو خطاب عندما يتحول إلى سلطة سيتبعها عنف خصوصا لمن لا ينصاع لخطابهم وتنبهت السعودية لذلك وقلصت سلطاتهم واسترجعتها وقصرتها على سلطتها وطلبت منهم الاستعانة بالسلطة الحاكمة عند الضرورة وهي مرحلة احتواء.

يبدو أن الأولويات اختلطت لديهم وأصبحت الفروع بمثابة أصول، قد يكون العلماء لم يتصدوا لمثل هؤلاء نتيجة إيمانهم الأخذ بالأحوط وهو ما عارض كثير من قواعد الشرع مثلما ثار الناس تجاه الأعرابي الذي بال في المسجد فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ألا سجلا من ماء. (فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين) رواه البخاري. وقاعدة (كلما ضاقت اتسعت)، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم (يسروا ولا تعسروا).

لم يؤمنوا أساسا بسياسة تطبيق الدعوة وتنزيلها على الواقع باعتبار أن التدرج يحصل المصالح ويدرأ المفاسد، ولم يراعوا حتى التدرج المرحلي الذي يرتب الأولويات، ولم يستوعبوا العذاب الذي ينزله الله على عباده لم يكن مباغتا لإعطاء عباده فرصة للتوبة والرجوع إلى الله (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون )، بل من مستلزمات هذا التدرج إعمال الرفق وإعمال العقل الذي يريدون تعطيله حتى تكون الاستجابة لهم استجابة طوعية دون مراجعة وقد ورد عن الرسول الكريم (رأس العقل بعد الإيمان بالله)، لأنه لو عطل العقل لانحرف الدين ولذلك قال بن عمر رضي الله عنه خذ الدين عمن استقاموا ولا تأخذ عن الذين مالوا، بل في قوله تعالى (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم ينشئ الله النشأة الآخرة) هذه الآية تحفز الإنسان على إعمال عقله وهي التي حفزت العلماء قديما لاكتشاف الكثير من العلوم ووضع النظريات وهذا ما دفع عجلة العلم ولذلك كان الفضل لعلماء المسلمين التي أخذها عنهم علماء أوربا واستفادوا منها وقاموا بتطويرها في الزمن الذي تخلف فيه المسلمون، (وفي الأرض آيات للموقنين)، وعندما يتعمق الإنسان في هذه الآيات يزاد إيمانا بالله وأن الله قادر على إعادة خلقه، ويزداد يقينا بلقاء خالقه جل وعلا، وهذا اليقين يبقينا على صلة بالله سبحانه وتعالى لتستقيم أعمالنا وتصبح خالصة لوجه الله تعالى .

لأن الذين مالوا لم يتمكنوا من التكيف فيصلوا إلى أهدافهم عن طريق العنف وعن طريق المجابهة بسبب ضعف حيلتهم وضعف تفكيرهم وهم لا يتمتعون بالذكاء اللائق بالإنسان لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول (رأس العقل بعد الإيمان بالله مدارة الناس والتودد إلى الناس)، والمداراة ليست من المداهنة، وهو خلط لم يتمكن مثل هؤلاء التفريق بينهما، لأن المداهنة أن تطلب الدنيا على حساب الآخرة أو الدين، لكن المداراة بذل الدنيا من أجل الدين كما أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم حديثي العهد بالإسلام بعد غزوة حنين يفوق ما أعطاه أصحابه.

لأن المداراة تحتاج إلى الرفق وعكس الرفق العنف والعنف لا يأتي بخير بل يأتي بعنف مضاد يتضح ذلك من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم (علموا ولا تعنفوا فإن المعلم خير من المعنف)، (لا يكون الرفق في شئ إلا زانه ولا ينزع من شئ إلا شانه)، (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون). وحديث أبي هريرة (إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا أراد الله عز وجل بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرفق)، ولم يأمرنا الله سبحانه وتعالى باتخاذ سوى الشيطان عدوا (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكون من أصحاب السعير). بينما عداوة من يحاربنا هي عداوة متحركة وليست ثابتة قد يسلم أو ينزع للسلم، وهناك فرق بين بغض كفر الكافرين فيما عدا ذلك فرض الله علينا أن نحسن إليهم ونبرهم من لم يقاتلنا ولم يخرجنا من ديارنا.

رموز التعصب من السنة والشيعة مثلما يروج الشعبويون الطائفيون أن تحرير الموصل كانت انتقاما لمقتل الحسين من أتباع يزيد، وهو ما يمثل استدعاء صريح للصراع الطائفي التاريخي وهم يخالفون قول الله سبحانه وتعالى (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) وتنزيله على واقع مختلف.

الإشكالية أن رموز التعصب والانغلاق وخطباؤه الشعبيون هو أنهم يجدون قبول عامي في كثير من الأحيان، بل في بعض الأحيان يجدون العامة من يشبع نزعات وأزمة هوية لديهم خصوصا حينما تكون انتصار للماضي وأن يرتبط بالانتصار في المستقبل خصوصا في ظل هامشية التنوير والاعتدال الذي غاب عنه العلماء في مجتمعات محافظة خصوصا في ظل غياب مراجعة لتلك الخطابات، بل ظلت تلك الشعارات الشاحنة هي المسيطرة على الساحة، خصوصا في ظل سيادة حواجز نفسية في الثقافة والوعي العربي التي تحجب عن المصارحة والمراجعة وتعيق العقلية النقدية تكتفي بالتسليم بالتلقي والاستسلام للسائد حتى لو ثبت أنه يتعارض مع أسس وروح الدين الصحيح، بسبب أن أصحاب تلك الخطابات يتبوءون مكانة روحية في المجتمع لا يمكن مخالفتهم.

كثيرا ما يسوق التطرف والإرهاب الناعم لمقولاتهم ورموزهم وأهدافهم العنيفة التي صاغتها في ذهنية شعبية عريضة، لذلك نجد هناك وصف للرموز بأنه أعلم أهل الأرض أو يوصف بالمجدد مثلما كتب البنعلي يبالغ في أوصاف البغدادي والعدناني ومن قبل كتب فارس آل شويل واصفا أسامة بن لادن بأنه مجدد الزمان وقاهر الأمريكان ومثله أبو قتادة الذي وصف الظواهري بأنه حكيم الأمة.

 ومن ينقلب على فكر أي جماعة يتم تخوينه ومنقلب على الحق وقد يهدر دمه كما فعلوا ووصفوا أصحاب المراجعات من الجماعة الإسلامية المصرية إلى حسن حطاب مؤسس الجماعة السلفية للدعوة والقتال في الجزائر التي تحولت للقاعدة في بلاد المغرب العربي عام 2007 بعد تحوله، كما صبت القاعدة سهام غضبها على منظرها الجهادي عبد القادر بن عبد الله بعدما أصدر من مراجعات سنة 2009 ومثلهم من منشقين عن جماعة الإخوان المسلمين.

هناك صلة وثيقة بين التطرف الناعم والتطرف العنيف قد يجهلها الكثيرون، لأن التطرف الناعم حينما يجد الفرصة مواتية يتحول إلى تطرف عنيف، ولا تلتفت الدول للتطرف الناعم الذي يبقى محصورا في الفتوى والاتهام والتبرير على المستوى النظري والاجتماعي لأنه يتحول إلى سلطة والتغيير باليد تحت نظر الدولة بحجة أنها لا تريد إثارته حتى لا يتحول إلى تطرف عنيف يحارب الدولة نفسها، لكن الخطير أنه يتلقى الدعم والتمويل على المستوى العملي أيضا تحت نظر الدولة فقط لأنه تطرف غير عنيف وإن بدأ الدعم والتمويل يتوقف في الوقت الحاضر تحت حجة محاربة الإرهاب وهل مقاطعة دولة قطر هي بداية لمواجهة التطرف الناعم؟ وهل هي رسالة للتطرف الناعم بأن الوقت حان لتغيير خطابه؟، المستقبل يجيب على هذا السؤال.

يظل التطرف الناعم غير العنيف أخطر وأبعد أثرا من فعل الإرهاب نفسه لأن التطرف العنيف يتم محاربته ومحاصرته، بينما التطرف الناعم يحصل على الدعم والتمويل على أرض الواقع، وقد يتحول متى ما تحققت ظروف تحوله وإن كان هناك جماعات من التطرف الناعم يرفضون هذا التحول تماشيا مع منهج الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم الخروج على الحاكم.

رغم ذلك يبقى وعي الإرهاب والتطرف والانغلاق كامنا في بعض الدعاة والشيوخ رغم أنهم يدعون البراءة من العنف، لكن كثير منهم انضم إلى الجماعات الجهادية عندما أتت له الفرصة المواتية، والبعض منهم يحرض الشباب على الانضمام لتلك الجماعات الجهادية، والبعض الآخر يساهم في تمويل تلك الجماعات الجهادية،  توقفوا عندما بدأت الدول تضييق على مصادر التمويل، لكن يبقى متطرفا كامنا ينتظر الفرصة المواتية.

لذلك من الخطأ حصر الإرهاب في التطرف العنيف ووصفه بالإرهاب، فيما التطرف الناعم تتعدد أشكاله وصوره كلاميا ونفسيا ووعيا وفعلا خصوصا ممن يقسمون العالم إلى فسطاطين ويبررون في تكفير وتفسيق مخالفيهم ويعتبرون المواطنة درجات، محتكرين العلم الشرعي دون غيرهم وخصوصا الاجتهاد مدعين الاصطفاء لشيعتهم دون غيرهم ولا يعترفون بأن هناك متسع لما هو دنيوي ونسبي وتقديري فقط لا يعترفون إلا بلغة الاحتكار للحقيقة وأهليتهم لها.

نجد أن المفكرين والمثقفين يراهنون على الأمة، فيما هم يراهنون دائما على الهيمنة على السلطة وعلى المجتمع لكن إذا لم يتمكنوا من الهيمنة على السلطة فهم يكتفون بالهيمنة والتحكم في المجتمع بأن يكون المجتمع مطيعا لهم ومنفذا لخطابهم ومن يعارضهم يطلقون عليه مسميات كملحد ويؤلبون عليه المجتمع تقوده للعقاب، وهم يختلفون عن المفكرين الذين يراهنون على الارتقاء بوعي المجتمع نحو الحقوق لذلك هم يخيفون الدولة منهم من أن لهم صلات خارجية لتوعية المواطنين بالحق السياسي.

أيضا هم خالفوا منطق ما ذهب إليه مذهب أهل السنة والجماعة التي تركز عن درء الفتنة والغلو وعدم الخوض في خلافات الصحابة وتأكيدهم على فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر السلمية ورفضوا الخروج المسلح على الحاكم انطلاقا من الدين درءا للفتنة واستباحة الأوطان والمدنيين على عكس غيرهم من أهل الغلو والتطرف كالخوارج وغيرهم الذين قاتلهم الإمام علي رضوان الله عليه وكفروه لكن في البداية قبل أن يقاتلهم الإمام علي أرسل لهم حبر الأمة عبد الله بن عباس وأقنعهم لأنهم يرون استباحة النساء وسبيهم كما تفعل داعش فناقشهم كيف تستبيحون نساء الرسول صلى الله عليه وسلم وهم أمهات المؤمنين رجع منهم أربعة آلاف وقاتل الإمام علي رضوان الله عليه البقية لأنهم استثمروا الخلاف بينه وبين علي مثلما استثمرت داعش الفراغ الأمني والسياسي في العراق وسوريا.

لذلك تميزت جماعة أهل السنة والجماعة عن غيرها من المذاهب كونها جماعة استقرار وتعليم دعوة بسبب أن رهانها على الأمة وتدوين العلم ولم تركز كثيرا على السلطة، وميلها للاعتدال والاستقرار كان سبب في بلورة هويتها وانتشارها وبقاؤها.

في خاتمة هذا المقال التطرف الناعم ليس شرطا أن يكون عنيفا معلنا، بل يمكن أن يكون ناعما تسكن أفكاره العنف أو يرحب به أو يدعمه ويموله يمكن أن نكتشف التطرف الناعم من خلال الخطابات والفتاوي التي تصدر من مثل هؤلاء الذين يمكن مواجهتهم من خلال الحوار وفتح الساحة أمام الخطاب المعتدل بدلا من تركها تحتكر الساحة، إنها مرحلة يجب أن تكون جادة وتسبق محاربة التطرف العنيف إذا أردنا أن نقضي على الإرهاب.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق