أطر العلاقات الإيرانية-الروسية وأثرها في الأمن القومي العربي (1)

مقدمة:

مرت العلاقات الإيرانية-الروسية بتطورات عززت نمط التقارب فيما بينهما، حتى بات عدد من المراقبين السياسيين يصفها بعلاقات تحالف استراتيجي بين الدولتين، فيما لم تبلغ هذه العلاقات فعلياً مستوى التحالف الاستراتيجي، أو حتى التعاون الاستراتيجي، بل يمكن اعتبار ما يتم اليوم هو تقارب استراتيجي مصلحي، نتيجة للظروف الداخلية في كلا الدولتين من جهة، وتوافقاً مع المتغيرات الإقليمية المحيطة بهما من جهة أخرى، بما يفسح لهما مجالاً للمناورة السياسية في البعد الدولي من جهة ثالثة.

 

إنّ العلاقات الودية التي تتعزز رويداً بين الدولتين، هي وليدة العقد المنصرم، بعد محاولات عديدة لتطويرها بعد انتهاء الحرب الباردة. غير أن تاريخ تلك العلاقات، محكوم بنمط مختلف تماماً عن النمط الحالي، ومضاد له في كافة الاتجاهات، وهو ما يعيق تأسيس شكل من العلاقات يتجه نحو تحالف استراتيجي بعيد المدى في المستقبل.

إذ تشكل روسيا في الوعي الفارسي، قوة احتلال طيلة أربعة قرون، كانت فيها روسيا الدولة المهيمنة حول إقليمها، وطالما توغلت داخل الأراضي التي باتت تعرف اليوم بإيران، وخاصة في الفترة الممتدة بين أعوام 1800-1946، والتي احتلت فيها روسيا أو سهلت احتلال أجزاء عديدة من إيران، أي حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.

في المقابل، فإن النمط السلوكي بين الدولتين، اتخذ منحنى عدائياً آخر خلال فترة الحرب الباردة، نتيجة التباينات العقائدية عدا عن التاريخية فيما بينهما، ففيما كانت روسيا (الاتحاد السوفييتي)، المرجع الأول للمنظومة الشيوعية في العالم، تراوحت إيران بين تبعية مطلقة للمنظومة الرأسمالية الغربية بقيادة الولايات المتحدة (الشرطي الأمريكي في منطقة الخليج العربي)، ونظام ديني ثيوقراطي مضاد للتوجه الإلحادي للاتحاد السوفيتي، واصفاً إياه “بالشيطان الثاني” خلف الولايات المتحدة “الشيطان الأول”.

أي إنّ التاريخ القريب والبعيد للدولتين، لا يتيح لهما تجازوه سريعاً بإنشاء علاقات ترتقي إلى مستويات تحالف استراتيجي على نمط التحالفات الغربية البينية مثلاً، بل يتطلب ذلك تغيرات بنيوية كبرى في الفكر السياسي والمجتمعي وفي نمط القراءات البراغماتية للمصالح الوطنية.

وتتناول هذه الدراسة مسار العلاقات الروسية-الإيرانية ما بعد الحرب الباردة، وعوامل التقارب والتنافر الناشئة فيها، وأبعادها الإقليمية والدولية، وتأثيراتها على أمن الخليج العربي خاصة والعالم العربي عامة. وذلك في جزأين متتاليين، يتناولان المحاور التالية:

 

الجزء الأول:

–      تطورات العلاقات الروسية الإيرانية بعد انتهاء الحرب الباردة.

–      دور الملفات الإقليمية في تعزيز التقارب.

–      عوامل التنافر والجذب في الملف النووي الإيراني.

 

الجزء الثاني:

–      المنافع الاقتصادية والتعاون العسكري.

–      عوامل التنافر والتجاذب السياسية.

–      أثر ثورات الربيع العربي في نمط العلاقات البينية.

–      أثر العلاقات الإيرانية-الروسية في الأمن القومي العربي.

أولاً- تطورات العلاقات الإيرانية-الروسية بعد انتهاء الحرب الباردة:

سعت الدولتان خلال الفترة اللاحقة لنهاية الحرب الباردة، ونتيجة المتغيرات الجيوسياسية الدولية والإقليمية، إلى استحداث نمط تقاربي في العلاقات بينهما، من خلال تبادل زيارات رسمية على مستويات عليا، وتوقيع بعض اتفاقيات التعاون الثنائي في عدة مجالات، دون أن تخلق نمطاً متسارعاً في تحولات العلاقات البينية بين الطرفين، إنما كانت تؤسس لما سيليها لاحقاً.

حيث أثّر انهيار الاتحاد السوفييتي في التوجهات العقائدية والسياسية للحكام الروس، وبحثوا تحت قيادة يلتسن في الانفتاح غرباً، وخاصة تجاه الولايات المتحدة، في ظلّ انهيارات اقتصادية كبرى، ترافقت مع لحظة الانهيار، وتَفَكُّك جغرافي أفقد الروس كثيراً من مناطق الموارد الأساسية للدولة، عدا عن انخفاض الفاعلية السياسية الروسية إلى أدنى مستوياتها، وهو ما أثّر في طبيعة العلاقات الروسية مع الدول الأخرى، ومنها إيران، أي إنّ التوجه الروسي نحو الغرب قد حَكَم العلاقات الروسية الدولية طيلة عقد التسعينيات من القرن الماضي.

غير أنّ وصول بوتين للسلطة عام 2000، شكّل تغيّرات كبرى في نمط التفكير الاستراتيجي لدى روسيا، بهدف إعادة بناء الدولة، واكتساب مناطق مناورة استراتيجية، يُؤَسَّس عليها في استعاد بناء القوة الروسية، في ظلّ ثقل إرث القوة السوفييتية التي تطارد القادة الروس الجدد.

وأتى ضمن ذلك، إعادة تقييم للمحيط الجيوستراتيجي الروسي، وعلاقاتها بدول الجوار، وعلى رأسها إيران، ضمن متغيرات إقليمية شكّلت للبلدين عوامل تقارب حقيقية، وخاصة مع وقوع الاحتلال الأمريكي لأفغانستان عام 2001، وللعراق عام 2003، وهو ما خلق تحدّياً أمنياً استراتيجياً لكليهما (روسيا وإيران) وعلى مقربة منهما بشكل مباشر. عدا عن التغلغلات الأمريكية والأوروبية في شرق أوروبا ووسط آسيا بما يتناقض ومصالح هاتين الدولتين.

حيث قادت الرغبة الروسية الملحة في العودة إلى الشرق الأوسط، وتعزيز مكانتها في آسيا الوسطى وجنوب آسيا، الحكومة الروسية إلى إعادة تقييم دور إيران. فإيران تحتفظ بمكانة جيواستراتيجية خاصة تتيح لها ممارسة تأثير مباشر على مناطق بحر قزوين وآسيا الوسطى والقوقاز والشرق الأوسط. وتمتلك أيضاً قدرة الوصول المباشر إلى الخليج العربي. فضلاً عن ذلك، استمر تزايد أهمية إيران في التواصل مع كل ما لها صلة به في جميع المناطق الساخنة في الشرق الأدنى والأوسط، وعلاقاتها الراسخة مع عدة حكومات بلدان إسلامية. وهكذا، لم تكن روسيا مهتمة بالحفاظ على إيران فحسب، وإنما بتعزيز نفوذها لديها أيضاً (1).

في المقابل، وجدت إيران في روسيا منفذاً يمكن الولوج منه إلى السياسة الدولية، تستطيع من خلاله أولاً كسر العزلة المفروضة عليها، وإنشاء علاقات إقليمية-دولية تكون سنداً لها في ظلّ نظام دولي بات محكوماً من الولايات المتحدة، ولربما كان التغير الكبير في شكل النظام الدولي وراء انفتاح إيران نحو “الشيطان الثاني”، عوضاً عن الانصياع “للشيطان الأول” كما حصل مع كثير من دول المنظومة الاشتراكية.

إضافة إلى رغبة إيران حينها، في الاستفادة من الانهيارات الاقتصادية الروسية، وسعيها لشراء السلاح الروسي المعروض في السوق الدولية، واستخدام مقدراتها الاقتصادية في اجتذاب الساسة الروس، وخاصة في الملف النووي، عدا عمّا كانت ترجوه إيران، من توظيف الفيتو الروسي لصالح توجهاتها الإقليمية.

ثانياً- دور الملفات الإقليمية في تعزيز التقارب:

شكّل المحيط الجغرافي المشترك للدولتين، وتقاطع المصالح فيه وتطابق عدد من تواجهاتهما إزاءه، إلى جعل الملفات الإقليمية عامل تعزيز للعلاقات المشتركة بين الدولتين، وخاصة بعد تولي بوتين السلطة في روسيا.

فرغم أنّ السياسة الإيرانية تجاه محيطها العربي، انتهجت سلوك “تصدير الثورة” وخلق عالم شيعي محيط بها، وإحداث تغلغلات وشروخ في المجتمعات العربية، عبر نشر التشيع بهدف توسيع الحاضن الاجتماعي لها، وذلك منذ ثورتها الخمينية؛ إلّا أنّها لم تنتهج ذات السلوك تجاه محيطها غير العربي، وخاصة في المجال الإقليمي الروسي. فسياسة تصدير الثورة والتشييع المجتمعي إنّما المستهدف بها المجال العربي الإسلامي فحسب، فيما تعاملت مع المجالات الأخرى بمصلحية تعزز وجودها دون إحداث تصادمات مع القوى الأخرى في وسط آسيا ومنطقة بحر قزوين.

فنجد مثلاً، أنّ إيران وروسيا اعتبرا أفغانستان حاجزاً أمنياً في مواجهة التعدي غير المباشر للغرب. وفيما يتعلق بآسيا الوسطى والقوقاز والبلقان فإنّ كلاً من إيران وروسيا ترى فيها مصالح بدرجات متفاوتة، ولكنها مرتبطة معاً، لذلك فهما ينظران إلى النفوذ المتزايد لشركات النفط الأمريكية في القوقاز، والاستثمارات الكبيرة لأوروبا وتركيا في آسيا الوسطى، والتعاون الأمني السابق بين تركيا وإسرائيل وضغوطه على إيران، أمراً يهدد أمنهما القومي. فروسيا تسعى لتفوق اليونان والقبارصة اليونان على الأتراك، ولإيران علاقات طيبة مع اليونان. كما أن روسيا تؤيد أرمينيا في نزاعها مع أذربيجان حول منطقة “قراباغ”، كما أكّدت إيران على ضرورة دعم العلاقات مع اليونان وأرمينيا. هذا فضلاً عن أنّ كلاً من إيران وروسيا تعارضان كلّ بطريقته الخاصة المحاولات الأمريكية لتوجيه العلاقات الدولية، كما تعتبران أوروبا الغربية منافساً خطيراً لا يعتمد عليه (2).

وتظهر في قراءة أولية لعلاقات إيران الإقليمية، في المجال غير العربي، الأبعاد المصلحية غير العقائدية، إذ فيما تحكم توجهاتها العقائدية سياستها الخارجية تجاه منقطة المشرق العربي والخليجي العربي، فإنّها اتخذت موقفاً مضاداً لأذربيجان ذات الأغلبية الشيعية لصالح أرمينيا، وموقفاً مضاداً لتركيا المسلمة لصالح اليونان وقبرص، حيث تجلى البعد الواقعي البراغماتي في علاقاتها تلك، وهو ما طمأن روسيا إلى طبيعة التوجه الإيراني إلى محطيها الجغرافي.

فبعد انتهاء الصراع بين روسيا وجورجيا عام 2008، اتبعت إيران سياسة براغماتية في التعامل مع أذربيجان وأرمينيا في مسألة “قراباغ وناغورونو”؛ فسّهلت تعاملات السفر إلى أراضيها وطورت التعاملات الثنائية مع دول القوقاز، ورغم تصاعد الخلاف بين إيران وأذربيجان إلاّ أنّ هذا لم يخلق مشكلة بالنسبة للطرف الروسي في الإقليم. والنقطة الأخرى التي تجدر الإشارة إليها هي تخوف البعض من دعم إيران للمسلمين من الروس، إلاّ أنّه لا يمكن لإيران أن تدعم مجموعات سنية سلفية، وأصبحت روسيا تدرك هذا الأمر؛ لذا تحاول أن تحافظ على شراكة محددة مع إيران في هذه المنطقة دون التأثر بالملفات الكثيرة الأخرى (3).

غير أنّ القراءة المعمقة تظهر، عودة إيران إلى المزج بين العقيدة والسياسة، فامتناعها عن دعم مسلمي وسط آسيا ومسلمي روسيا، أتى نتيجة الاختلاف العقائدي بين مذهبها الشيعي، والمذهب السني السائد في تلك البلدان، والذي ترى فيه منافساً عقائدياً وسياسياً لها، تسعى إلى تقويضه.

وقد لعبت إيران دوراً هاماً بترؤسها منظمة المؤتمر الإسلامي (OIC) خلال سنوات حرب الشيشان الثانية، ما بين عاميْ 1999-2000. ويعود الفضل، إلى حد كبير، بتمرير قرار يقيِّم اجراءات موسكو في الشيشان على أنها تهدف إلى تحقيق السلام والاستقرار إلى الجهود الإيرانية. وساعد هذا القرار في التخفيف من الموقف السلبي لبعض الدول الإسلامية تجاه سياسة موسكو، حيث دعمت إيران سياسة موسكو لأنها كانت تشعر بالقلق إزاء تزايد التطلعات الانفصالية في المنطقة(4).

غير أنّه ليس لجميع الملفات الإقليمية أن تكون بذات درجة التوافق بين الطرفين، حيث يبقى عدد من تلك الملفات عالقاً دون إيجاد حلول نهائية، بل توافقية مؤقتة. ومنها على سبيل المثال، قضية الحدود المائية المشتركة في بحر قزوين، وتوزيع المنافع بين الدول المطلة عليه.

إذ أدى تفكك الاتحاد السوفيتي إلى تغيير الخارطة السياسية للمنطقة، ونشوء عدد من الدول الجديدة المستقلة، فعاد موضوع تقسيم البحر إلى الطاولة. ورغم المحادثات التي طالت لعشرين عاماً، لم تصل هذه الدول الى اتفاق مرضٍ لها جميعاً. وتمّ بالمقابل تنظيم معاهدات ثنائية وثلاثية لتقسيم الجزء الشمالي من البحر بين روسيا وكازاخستان وأذربيجان، فيما لا يزال القسم الجنوبي والذي يشمل كلاً من إيران وأذربيجان وتركمانستان موضع اختلاف. وتسعى روسيا لمد نفوذها في جغرافيا كانت إلى وقت قريب جزءاً من حدودها الطبيعية؛ ولهذا تدعم موسكو مواقف أذربيجان وكازاخستان في خلافهما مع إيران (5).

ثالثاً- عوامل الجذب والتنافر في الملف النووي الإيراني:

يعتبر الملف النووي الإيراني، أبرز الملفات في العلاقات الثنائية بين روسيا وإيران، منذ تسعينيات القرن الماضي، وشكّل بدوره عامل جذب وتنافر في تلك العلاقات، نتيجة تباين تطلعات الجانبين حوله، وتراكم العوامل المؤثرة فيه، رغم تبني روسيا لمشروع تطوير القدرات النووية المدنية الإيرانية.

لقد تطورت علاقات روسيا مع إيران بشكل متقطع وغير منتظم. وبذلت الولايات المتحدة، المنزعجة من الشراكة العسكرية والتقنية بين روسيا وإيران في مجال الطاقة النووية، ضغوطاً مستمرة على موسكو. وكان أوضح مثال على هذا الاتجاه مذكرة “غور – تشيرنوميردين” عام 1995 (التي ألغيت لاحقاً)، حيث توقفت بعدها روسيا عن الوفاء بعقودها مع إيران بشأن التعاون العسكري والتكنولوجي. وتكرر الوضع في عام 1998، عندما قررت روسيا عدم الوفاء بتنفيذ عقد بتزويد إيران بمفاعل أبحاث. على الرغم من هذه التحركات من جانب روسيا، فقد تزايد الضغط من واشنطن، وفرضت عقوبات على مجموعة من الشركات الروسية لتعاونها مع إيران. وأثرت العقوبات على مراكز الإنتاج العلمي بما في ذلك “Inor” و “Polius”  للطيران وجامعة Mendeleev  للهندسة الكيميائية. وكان لا بد لهذه الإجراءات من أن تؤثر في السياسة الروسية تجاه إيران، التي بدأت تأخذ طابعاً مزدوجاً (6).

ومنذ تفعيل أزمة البرنامج النووي الإيراني عام 2002 سعت روسيا لتعزيز دورها كوسيط يساعد على حلّ هذه الأزمة بالطرق السلمية، وبعد التهديدات الأميركية والإسرائيلية عام 2005 بشن هجوم عسكري على إيران، تقدمت موسكو باقتراح لتخصيب اليورانيوم الإيراني على الأراضي الروسية، وهو ما رفضته طهران، وقد دعمت روسيا بعد ذلك عقوبات مجلس الأمن على إيران في الأعوام 2006، 2007، 2008، 2011؛ ما أثّر في علاقات البلدين وصولاً إلى تباطؤ موسكو في استكمال مراحل مفاعل “بوشهر” لأكثر من سبع سنوات، فضلاً عن رفض تزويد إيران بالوقود النووي، وتعطيلها حتى اللحظة لطلب انضمامها إلى منظمة “شنغهاي”، وكل هذا يشكّك بإمكانية بناء علاقات استراتيجية بين الطرفين (7).

فتأييد روسيا لفرض عقوبات على إيران لم يكن عدولاً عن موقفها الداعم لإيران، وإنما اتساق مع موقفها من ضرورة تخصيب اليورانيوم في روسيا وهو ما ترفضه إيران. يؤكد ذلك أن روسيا عرقلت في مارس/ آذار 2007، بالتعاون مع الصين، مشروع قرار في مجلس الأمن لتشديد العقوبات على إيران بسبب برنامجها النووي، وذلك بتوسيع قائمة الأشخاص والشركات والجماعات التي سيتم تجميد أرصدتها، أو الجهات التي سيتم فرض قيود على التعامل معها مثل الحرس الثوري الإيراني، وبنك صباح المملوك للدولة، وفرض حظر إجباري على سفر المسئولين الإيرانيين الذين لهم صلة بالبرنامج النووي. كما بدأت روسيا في توريد الوقود النووي لمحطة “بوشهر” الإيرانية في 16 ديسمبر/ كانون الأول 2007، وانتهت في يناير/ كانون الثاني 2008 من تسليم الشحنة الثامنة والأخيرة، ليبلغ إجمالي ما تسلمته إيران 82 طناً من الوقود النووي الروسي (8).

وبينما كانت موسكو منخرطة في مناقشة فرض عقوبات جديدة، فإنها قامت بتنازل لواشنطن حول جوانب رئيسة متعلقة بالقضية النووية الايرانية. في الوقت نفسه، كان من الصعب المساومة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، سعياً إلى استبعاد “عقوبات تعطيلية” من أجل التقليل من تأثيرها في الايرانيين العاديين واستكمال بناء محطة “بوشهر” للطاقة النووية. أما روسيا فقد “دعمت القرار، وتعاملت معه على أنّه الإجراء الأقل شراً وبأنّه مصمم بهدف تشجيع إيران على الاستجابة لهواجس المجتمع الدولي”. في نفس الوقت، أعطت روسيا إشارة إلى أنّها لن تدافع عن إيران على الساحة الدولية إذا ما تعارض ذلك مع مصالحها في مسائل أخرى. وفي 22 سبتمبر/ أيلول 2010 أصدر الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف مرسوماً “بشأن التدابير الرامية إلى ضمان الامتثال لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1929، الصادر بتاريخ 9 يونيو/ حزيران ، 2010″، والذي جمَّد التعاون العسكري والتقني مع إيران. وهكذا، فقد تم توقيف توريد منظوماتS-300  الصاروخية مؤقتاً. في الوقت نفسه، كانت موسكو تعارض بشدة أي تشديد إضافي للعقوبات من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي (9).

ما كانت تحاول روسيا فعله عبر التعطيل والموافقة على العقوبات المفروضة على إيران بشأن ملفها النووي، هو أن تحافظ على مصالحها الخاصة في ذلك، دون الالتفاف إلى التطلعات الإيرانية، أي لم يكن لأبعاد تحالفية أي دور في هذا الملف، بقدر ما كان للمصالح الذاتية لكل دولة منهما. ففيما كانت إيران تتطلع إلى استغلال الجانب الروسي في المساعدة في بناء برنامج نووي متكامل، يمكن العمل على تطويره لاحقاً باتجاه برنامج نووي عسكري؛ فإن روسيا بدورها ما كان لها أن تعمل على إنشاء قوة نووية عسكرية أخرى على حدودها الجنوبية.

إذ شاهدت روسيا نمواً في القوى النووي طيلة العقود الماضية في المحيط الجغرافي بها، بدءاً من الصين وكوريا الشمالية، ومروراً بالهند وباكستان، ولا ترغب في إضافة قوة أخرى، تملك إرثاً تاريخياً غير ودي من جهة، ومتناقضٍ عقائدياً من جهة أخرى. لذا قدمت حّلاً عبر تخصيب اليورانيوم على أراضي، حتى تحافظ على سيطرتها على البرنامج من أيّة تغييرات نحو العسكرة.

للعوامل الاقتصادية دور آخر في ذلك، فموافقة روسيا على بعض العقوبات التي فرضها مجلس الأمن على إيران، دفع حكومة نجاد إلى البحث عن شركاء جدد في المجال النووي، وخاصة في كوريا الشمالية والصين، وهو ما يعني فقدان عوائد مالية ضخمة، كانت روسيا تطمح إلى الحصول عليها، عبر تبني تطوير القدرات النووية المدنية الإيرانية، فكانت الموافقة على العقوبات رسالة روسية بهدف استعادة سيطرتها على الملف النووي الإيراني دولياً وأمنياً واقتصادياً.

وقد دفعت تلك السياسة الروسية من العقوبات، إلى استثارة إيران، وخلق أزمات ضمن مسار العلاقات البينية بينهما، عزز منه المواقف المتشنجة للرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد.

حيث انتقد أحمدي نجاد بشدة، دعم القيادة الروسية لمشروع توقيع عقوبات على إيران، المقدم إلى مجلس الأمن، وعدم دعمها لاتفاق تبادل الوقود النووي. وأضاف الرئيس الإيراني أنه “يقول هذا الكلام حتى يسمعه الرئيس الروسي، حيث لم يستطع أن يبرّر سلوك الرئيس الروسي تجاه الشعب الإيراني، ولم يستطع الإيرانيون أن يفهموا إن كان هذا السلوك يبغي الصداقة وحسن الجوار أم يهدف إلى شيء آخر، وإنّني لو كنت رئيس روسيا لتمهلت فيما أقول أو في اتخاذ قرارات أو تصرفات تجاه دولة جارة عريقة صانعة للحضارة مثل إيران. لقد وقف الرئيس الروسي مع أشخاص ناهضوا إيران ثلاثين عاماً بكل الوسائل، وعليه أن يعيد النظر ويصحح موقفه، لأنّ اتفاق تبادل اليورانيوم هو أفضل الفرص، وإذا كانوا يقولون إنّ الغرب يضغط علينا، فنحن أيضاً كنّا تحت الضغوط، لكن لم يكن هذا معناه أن نمسّ المصالح الروسية لمصلحة آخرين، وآمل أن يدرك القادة الروس هذا الأمر ويصححوه، حتى لا يضعهم الشعب الإيراني في صف الأعداء التاريخيين”. وتعقيباً على كلام الرئيس الإيراني صرح أحد كبار المسئولين الروس (مستشار الرئيس الروسي للسياسة الخارجية) بأنّ هذا الكلام خداع سياسي ساذج، ولا يستطيع أحد أن يحصل على القوة من الخداع السياسي الساذج، وإنّ روسيا لا تقبل التطرف السياسي أو عدم الشفافية أو الإجراءات غير المتوقعة من جانب المسئولين الإيرانيين (10).

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

مراجع الجزء الأول:

(1) إيلينا دونييفا، “العلاقات السياسية الروسية-الإيرانية في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين”، 13/2/2013:http://www.khayaralmoukawama.com/DETAILS.ASP?id=2775&param=NEWS

(2) محمد السعيد عبد المؤمن، “هل تنهار العلاقات الإيرانية-الروسية”، الأهرام الرقمي، 1/7/2010:

http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?Serial=291149&eid=929

(3) فرح الزمان أبو شعير، “العلاقات الإيرانية-الروسية: شراكة حذرة تميز حلف الضرورة”، مركز الجزيرة للدراسات، 7/10/2013:

http://studies.aljazeera.net/reports/2013/10/201310710612251555.htm

(4) إيلينا دونييفا، مرجع سابق.

(5) فرح الزمان أبو شعير، “إيران وبحر قزوين: معادلة للصراع وتقسيم النفوذ”، مركز الجزيرة للدراسات، 3 فبراير/شباط 2013:

http://studies.aljazeera.net/reports/2013/01/2013131113627251370.htm

(6) إيلينا دونييفا، مرجع سابق.

(7) فرح الزمان أبو شعير، “العلاقات الإيرانية-الروسية: شراكة حذرة تميز حلف الضرورة”، مرجع سابق.

(8) نورهان الشيخ، “التعاون الاستراتيجي الروسي-الإيراني: الأبعاد والتداعيات”، الأهرام الرقمي، 1/5/2010:

http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?Serial=146000&eid=1538

(9) إيلينا دونييفا، مرجع سابق.

(10) محمد السعيد عبد المؤمن، مرجع سابق.

الوسم : إيرانروسيا

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق