أطر العلاقات الإيرانية-الروسية وأثرها في الأمن القومي العربي (2)

قدم الجزء الأول من هذه الدراسة، تحليلاً لثلاثة أنماط في العلاقات البينية بين إيران وروسيا، وهي:

–      تطورات العلاقات الروسية الإيرانية بعد انتهاء الحرب الباردة.

–      دور الملفات الإقليمية في تعزيز التقارب.

–     عوامل التنافر والجذب في الملف النووي الإيراني.

 

ويسعى هذا الجزء إلى استكمال الجهد البحثي، عبر تحليل أنماط أخرى من العلاقات البينية بين الطرفين، في المجالات التالي:

–      المنافع الاقتصادية والتعاون العسكري.

–      عوامل التنافر والتجاذب السياسية.

–      أثر ثورات الربيع العربي في نمط العلاقات البينية.

–      أثر العلاقات الإيرانية-الروسية في الأمن القومي العربي.

رابعاً- المنافع الاقتصادية والتعاون العسكري:

يعتبر العامل الاقتصادي في العلاقات الإيرانية-الروسية، أبرز عوامل التقارب بين الدولتين، وخاصة في الفترة اللاحقة لانهيار الاتحاد السوفييتي، في حين سعى القادة الروس، إلى استحداث مصادر دخل، توفر لهم إمكانية إدارة الدولة المنشأة حديثاً على أطلال الإمبراطورية السوفييتية. ولم يكن من مصادر دخل حقيقية، سوى تحوّل روسيا إلى تاجر سلاح دولي (بقايا السلاح السوفييتي)، سواء بشكل حكومي، أو من خلال التغلغل في الأسواق الدولية السوداء. وهو ما شجع إيران الطامحة لتعزيز قوتها إلى الإسراع بخلق نمط تقاربي في العلاقة مع روسيا.

وغدت إيران شريكاً تجارياً مميزاً لروسيا، إذ بلغ معدل الميزان التجاري بين البلدين عام 2012، 3.65 مليار دولار؛ تُشكّل 3.4 مليار دولار منها حجم الصادرات الروسية للسوق الإيرانية، مقابل 0.6% فقط هي حجم الصادرات الإيرانية (1).

كما باتت إيران، الشريك الثالث لروسيا على صعيد التعاون العسكري، بعد الصين والهند. وقد بدأت هذه الشراكة بين الجانبين إبان الزيارة التي قام بها الرئيس الأسبق محمد خاتمي إلى موسكو عام 2001، ليوقّع في خريف ذاك العام اتفاق التعاون التكنولوجي العسكري بين البلدين. وقد اهتمت طهران كثيراً بتطوير أنظمتها الصاروخية من خلال هذا التعاون، وطمحت للحصول على تراخيص لصنع السلاح الروسي وهو مالم تُلبِّه موسكو، وتصنّف روسيا جميع الأسلحة والشحنات البحرية إلى إيران على أنها أسلحة دفاعية. وخلال السنوات الماضية شمل التعاون العسكري صفقات وُقّعت بين الجانبين لشراء الصواريخ المضادة للدبابات، والمنظومة الصاروخية  TOR-M1، والطائرة المقاتلة  SU-25UBT، وطائرات ميغ-29، وسوخوي-24، ومروحيات النقل العسكرية، بالإضافة إلى قطع غيار وصيانة لما يمتلكه الجيش الإيراني من دبابات روسية الصنع (2). حيث وقعت إيران وعلى امتداد الفترة ما بين عامي 2000-2007، عقداً تسليحياً مع روسيا بقيمة 1.96 دولار مليار (3).

وتقدر أرباح روسيا من التعاون العسكري مع إيران بما يتراوح بين 11 و13 مليار دولار؛ ففي العام 2007 وحده وقّعت روسيا عقداً لتسليم طهران خمسة أنظمة من صواريخ أرض جو s300، بكلفة 800 مليون دولار، وفي عام 2010 ألغى الرئيس الروسي السابق ديمتري مدفيديف ذلك العقد بسبب ضغوط أمريكية وإسرائيلية؛ الأمر الذي تسبب بأزمة بين البلدين، خاصة بعدما وجّه الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد انتقادات لاذعة للسياسة الروسية، ردّ عليها الكرملين بعنف. كما رفعت طهران دعوى قضائية أمام محكمة الاستئناف الدولية ضد شركة “روس أوبورون إكسبورت” الحكومية الروسية لتصدير الأسلحة، مطالبة بتعويض بقيمة 4 مليارات دولار، بسبب إلغاء الشركة لعقد توريد منظومات s300 (بي أم أو 1) إلى إيران (4).

غير أنّه يمكن تفسير النمو المطرد في التعاون العسكري بين البلدين في ضوء مجموعة من الاعتبارات، أهمها رغبة روسيا في استعادة مكانتها في سوق السلاح، وزيادة حصتها من هذا السوق، وذلك بالنظر إلى ما تمثله عائدات تجارة السلاح من مورد لا غنى عنه بالنسبة لروسيا، خاصة في ظلّ الأزمة الاقتصادية العالمية مؤخراً. وقد أشار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى ذلك صراحة، حين أشاد بثمار التعاون العسكري بين روسيا وعدد من الدول، منها إيران، حيث بلغت مبيعات الأسلحة الروسية 8.5 مليار دولار عام 2008 لوحده. لتحتل روسيا المرتبة الثانية عالمياً بين مصدّري السلاح بعد الولايات المتحدة (5).

كما عملت إيران منذ بداية العقد الماضي، على تمويل عدد من مشتريات السلاح السورية من موسكو، وزادت وتيرة ذلك في الفترة اللاحقة لاندلاع الثورة السورية على نظام الأسد، ورغم تراجع موسكو عن تسليم عدد محدد من صفقات السلاح تلك، سواء لإيران أو لنظام الأسد، نتيجة ضغوط أمريكية وإسرائيلية، عدا عن ضغوط اللوبي اليهودي في موسكو؛ إلا أنها استمرت في توريد باقي الصفقات الأخرى لكلا الطرفين.

وكان من أحدث إشكاليات تلك الصفقات، امتناع روسيا عن توريد منظومة “إس-300” الصاروخية المضادة للطيران، نتيجة الضغوط المذكورة أعلاه من جهة، وإعادة تقييم للتوازنات العسكرية والاستراتيجية في المنطقة بأسرها من جهة أخرى.

وقد نفت مصادر عسكرية روسية التوصل إلى اتفاق لحل هذه القضية خلال مباحثات الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والإيراني حسن روحاني على هامش قمة منظمة شنغهاي للتعاون في بشكيك خلال سبتمبر/أيلول 2013. مؤكدة أنّ المصَدِّرين الروس “لا يبحثون الآن توريد منظومة “إس – 300 في إم انتيه-2500” الصاروخية المضادة للطيران إلى إيران، ولكنه أمر لا يمكن استبعاده في المستقبل (6).

عموماً، تبقى روسيا المصدر الأساسي المتاح لإيران للحصول على الأسلحة والتكنولوجيا العسكرية، في ظلّ الحظر المفروض عليها من الولايات المتحدة وأوروبا. وتؤكد روسيا أنّ تعاونها العسكري مع إيران ليس موجهاً ضدّ أيّ طرف ثالث، وأنّه لتعزيز القدرات الدفاعية لإيران، وأنّ روسيا تساعد إيران في تحديث آليتها العسكرية لمواجهة التهديدات المختلفة التي تواجهها. هذا فضلاً عن أنّ إيران لا تتصدر قائمة الدول الأكثر إنفاقاً على مشتريات الأسلحة في المنطقة. فوفقاً لبعض التقارير الأمريكية ذاتها، فإنّ حجم مشتريات إيران من الأسلحة أقل من مشتريات إسرائيل، والكويت، والإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية. فعلى سبيل المثال، بلغ حجم الإنفاق العسكري للمملكة العربية السعودية 33.33 مليار دولار عام 2007، والإمارات العربية المتحدة ما يزيد على 10 مليارات دولار، في حين بلغ حجم الإنفاق العسكري الإيراني 16.7 مليار دولار في العام نفسه (7).

 

خامساً- عوامل التنافر والتجاذب السياسية:

رغم الإطار العام للعلاقات الإيرانية-الروسية الذي يكتسي بطابع التقارب المصلحي الاستراتيجي، إلاّ أن العلاقات بين الطرفين تمر بشكل مستمر بمراحل من التجاذب والتنافر حول عديد من القضايا، وذلك يعود إلى ضعف مأسسة بِنيَة العلاقات بين الطرفين، واعتمادها على حجم المنافع المكتسبة فحسب، فهي تمثيل حقيقي لمقولة “لا صداقة دائمة ولا عداوة دائمة، بل مصالح دوماً”.

ويعزى التذبذب في العلاقات الروسية-الإيرانية إلى عدم وجود استراتيجية روسية عملية واضحة تجاه إيران؛ وفي المقابل تتعامل موسكو مع جارتها الجنوبية وفقاً لكل حالة على حدة، ثمّ يتغير تصرفها مع طهران تبعاً لذلك. وبمعنى آخر، لا يُعد الحوار الأخير بين كلتا الحكومتين علامة على تحالف وليد، وإنما نتيجة مصالح متبادلة في قضايا مختلفة لا تتساوى أهميتها وأولويتها لدى موسكو. ومن هذا المنطلق، لا يمكن القول بأنّ تطور العلاقات الروسية-الإيرانية لا يمكن التنبؤ به مطلقاً، فهو يخضع لقواعد معينة، وبالرغم من افتقار موسكو لخطة عمل موحدة أو تصور واضح للأولويات العليا تجاه إيران، إلّا أّن لها مصالح قومية صريحة في إيران. وتقوم سياستها الخارجية على تلك المصالح، ومن غير المرجح أن يؤدي الوقوف أمام روسيا لكي تغير موقفها المرتكز على تلك المصالح إلى نجاح هذه السياسة (8).

فيما تقوم السياسة الإيرانية تجاه موسكو على محددات المكاسب في صفقات التسليح والبرنامج النووي، واستخدام الظهير الروسي في مواجهة التحديات الأمريكية، والاعتماد على الفيتو الروسي –كما يعتقد القادة الإيرانيون- في حال قرر الغرب تصعيد المواجهة مع إيران عبر مجلس الأمن، إضافة إلى اضطرار إيران إلى الاعتماد على روسيا في القضايا الإقليمية في بحر قزوين وآسيا الوسطى، والتي تشكل مجالاً استراتيجياً لكلا الطرفين، مع أولوية روسية فيها.

في المقابل، فإنّ من أهم محددات السياسة الروسية تجاه إيران، ما يلي(9):

–     الأولوية التي تحظى بها العلاقات الروسية-الأمريكية: فروسيا عازمة على رأب العلاقات مع الولايات المتحدة، وبصورة أساسية من خلال المقايضات والمساومات. ويدعم هذا الهدف التعزيز التدريجي للروابط غير الرسمية وشبه الرسمية بين النخبة الاقتصادية والسياسية والثقافية الروسية من جهة والغرب من جهة أخرى. وفي ظلّ هذه الظروف، تستخدم روسيا إيرانَ كورقة ضغط في حوارها السياسي مع واشنطن، حيث لعبت السلطات الروسية بهذه الورقة أثناء فترات التقارب والتوتر مع الولايات المتحدة إما بتجميد التعاون مع إيران تارة أو بتعزيزه تارة أخرى.

–     قضايا الأمن القومي: إنّ إحدى المحددات الهامة لسياسة موسكو الخارجية هي عدم القبول بأيّ تواجد عسكري نشط للولايات المتحدة/منظمة حلف شمال الأطلسي، بالقرب من الحدود الروسية، أو في المناطق التي تعتبرها داخلة في نطاق المصالح والتطلعات السياسية الروسية. وبسبب عدم قدرة روسيا على مجاراة التحديات السياسية العسكرية للولايات المتحدة/حلف الناتو، تتجه موسكو -بدلاً من ذلك- إلى اتخاذ تدابير انتقامية غير متماثلة، وتشمل هذه التدابير التكثيف المؤقت للتعاون مع معارضي واشنطن وأوروبا. ونتيجة لذلك يمكن للمرء أن يتتبع دائماً الارتباط الحاصل بين فترات تحسن العلاقات الروسية-الإيرانية وفترات تعثر حوار موسكو مع الغرب.

–  التواجد الإيراني في المناطق التي تعتبرها روسيا تقليدياً مجالاً خاصاً لمصالحها الاستراتيجية والتاريخية مثل مناطق آسيا الوسطى والقوقاز وبحر قزوين: فمنذ انهيار الاتحاد السوفيتي تحاول موسكو لعب دور القوة الرائدة في الأقاليم السوفيتية السابقة، وتغضب إلى أبعد حد من أيّة محاولة من جانب قوى خارجية للتغلغل في هذه الأقاليم. وحيث إنّ موقع إيران الجيوستراتيجي يتيح لطهران السيطرة على التطورات في أقاليم بحر قزوين والقوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأوسط والخليج العربي، ما يحتم على موسكو مناقشة العديد من قضايا السياسة الخارجية مع طهران. وعند النظر إلى حالات متشابهة بين منهجهما في التعامل مع عدد من القضايا الإقليمية، نجد أنّ موسكو ترى طهران شريكاً هاماً حول قضايا معينة، وفي الوقت نفسه لا تثق السلطات الروسية بطهران بصورة تامة، فلا تزال تشعر بالقلق إزاء بعض أنشطة إيران الإقليمية، والتهديد المتمثل في تقارب إيران مع الولايات المتحدة، ودور إيران المحتمل كنقطة انطلاق في صراع آخر.

–     الانتشار النووي: تعارض الحكومة الروسية حصول إيران على أسلحة نووية، معتبرة أنّ تطوراً كهذا من شأنه أن يحدث تغييراً جذرياً في ميزان القوى في المنطقة بحيث لا تكون نتيجته لصالح موسكو. وكما صرح بعض الخبراء الحكوميين، يمكن لإيران النووية أن تنتهج سياسة أكثر حدة واستقلالية في القوقاز وآسيا الوسطى، وأن تكون مثالاً يحتذى به بالنسبة لدول الشرق الأوسط ذات الأنظمة الأقل استقراراً التي تفكر بتطوير أسلحة الدمار الشامل الخاصة بها. وفي الوقت نفسه ليس لدى الخبراء والمسؤولين الروس دليل قاطع على أنّ إيران قد قررت إنتاج أسلحة نووية، وعلاوة على ذلك هم على اعتقاد بأنّ إيران غير قادرة على إحراز ذاك الهدف على المدى المتوسط، وأنّ جميع البيانات التي يصدرها المسؤولون الإيرانيون لا تحمل سوى حماس أجوف. وفي ظل هذه الظروف تقتصر موسكو على إبداء الاستياء أحياناً حينما تجد أنّ الأبحاث النووية في إيران آخذة في الاستمرار، ويأتي ذلك فقط عندما تبدي طهران تصلباً مجحفاً. ويُنظر إلى زيادة الضغط على إيران بأنه يضر بقضايا أخرى تحتاج فيها موسكو بشدة إلى دعم طهران (أو حيادها على الأقل).

–     المصالح الاقتصادية للنخبة الروسية: للرئيس فلاديمير بوتين وإدارته علاقات وطيدة مع كبرى الشركات الروسية الحكومية وشبه الحكومية، تصل إلى درجة أنّ التعويل على المصالح الاقتصادية لهذه الشركات قد أصبح أحد أهم الأهداف الرئيسة للسياسة الخارجية الروسية. وتعتبر إيران مثالاً واضحاً على هذا التوجه، فليس من قبيل الصدفة أن ترتبط غالبية قصص النجاح التجاري الروسي بالشركات المتعلقة بالحكومة.

وكتب فلاديمير سازهين، وهو مراقب سياسي، حول آفاق وفرص الشراكة: “إنّ السؤال هو كما يلي: إلى أيّة حدود، ومن دون الاضرار بمصالح روسيا، يستطيع التقارب بين روسيا الديمقراطية وإيران الإسلامية، وينبغي له، المضي قدماً، بحيث لا ينقطع بلدنا عن الاصطفاف مع الدول الأوروبية المتحضرة، مع الحفاظ على علاقات شراكة طبيعية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية المربحة من دون شك بالنسبة لروسيا، بما أنّ التحالف مع إيران سيكون ذا وزن معين معادٍ للغرب بالنسبة لحلف الناتو الموسع؟ .. يجب وصف العلاقات الروسية- الإيرانية بأنّها “شراكة حذرة في المنطقة،” دون تحويلها الى شراكة استراتيجية(10)“.

كما أثيرت شكوك خطيرة طرحتها نينا ماميدوفا، حول ضرورة صياغة استراتيجية شراكة: “مثل هذا السيناريو قد يحتمل زيادة فرص روسيا لجهة توسيع نطاق تأثيرها ونفوذها على المستوى شبه الإقليمي، ولكن المخاطر السياسية الناجمة عن تحالف مع الدولة حالياً في المواجهة مع القوى الرائدة في العالم تفوق أية أرباح محتملة. إنّ التعاون في تصميم وشكل المنظمات الإقليمية سيكون أكثر فعالية بالنسبة لروسيا (11)“.

وتشعر النخبة السياسية الروسية بقلق بالغ من فقدان التأثير السياسي والاقتصادي في الشرق الأوسط نظراً لما حدث بعد الإطاحة بصدام حسين والقذافي. وكنتيجة لذلك تسعى هذه النخبة إلى الحصول على ضمانات بعدم تضرر المصالح الروسية بشكل كبير إذا ما سقط النظام الإيراني. ومن المحتمل أن تحتاج موسكو أيضاً إلى مثل تلك الضمانات في حال حدوث تقارب أمريكي-إيراني. وتعتقد السلطات الروسية اعتقاداً راسخاً بأنّ الحوار بين واشنطن وطهران سوف يضعف من الأوضاع الاقتصادية والسياسية لموسكو في إيران وسيؤدي إلى تكوين تحالف عام جديد مناهض لروسيا، له قدرة كبيرة على التأثير في آسيا الوسطى والقوقاز. وفي ظلّ هذه الظروف، فإنّ التعهدات باحترام المصالح الروسية في إيران من المرجح أن تمنع روسيا من اتخاذ خطوات للتصدي للتحسن في العلاقات الأمريكية-الإيرانية (12).

سادساً- أثر ثورات الربيع العربي في العلاقات البينية:

شكلت الثورات العربية تحدياً إضافياً للسياسة الروسية في الشرق الأوسط، القائمة على دعم حلفاء استهدفتهم ثورات الربيع العربي. وعلى نقيض الولايات المتحدة التي تخلت سريعاً عن حلفائها المستهدفين، فإنّ كلاً من مدفيدف وبوتين عَمِلا على عدة نهج في التعاطي مع الثورات العربية، فهما لم يرحبا بها إطلاقاً، ورغم موافقة روسيا على قرار في مجلس يتيح المجال لعمل عسكري دولي ضد نظام القذافي، إلا أنها اتخذت منحى مختلفاً تماماً تجاه حليفها الأسد.

ففي حين اعتقدت موسكو أنّ ما تمّ في الملف الليبي، هو خداع غربي لروسيا، أدى إلى تقويض مصالحها في هذا البلد، فإنّها في المقابل تعيق أيّ جهد دولي لإيجاد حل في الملف السوري (حتى الآن)، وسارعت إلى دعم النظام عسكرياً عبر تدفقات كبيرة من الأسلحة المتوسطة والثقيلة، وجنّدت وزير خارجيتها ليكون الداعم السياسي والدبلوماسي الأول لنظام الأسد في المحافل الدولية.

أدى هذا الموقف الروسي، إلى إيجاد ملف مصالح مشتركة آخر مع إيران، التي انتهجت سلوكاً أكثر تشدداً من موسكو حتى، عبر إرسال ميليشياتها وقوات الحرس الثوري إلى سورية، لإسناد ما تبقى من قوات الأسد. وعمل الطرفان (الروسي والإيراني)، على جعل الملف السوري، محور سياستهما شرق الأوسطية، وعلى التنسيق فيما بينهما سياسياً وعسكرياً.

وخاصة أنّ إيران التي رحبت بنتائج الثورات العربية في البداية (في مصر وتونس)، تراجعت سريعاً حين بلغت الثورات نظام الأسد، مهدّدة نفوذها في إقليم المشرق العربي بكامله. فسقوط الأسد، يعني لإيران، محاصرة حزب الله وحيداً في لبنان، وتهديد نظام المالكي حليف طهران بعملية شعبية كذلك، عدا عن سحب الملف الفلسطيني من يد القادة الإيرانيين، وانتهاء قدرتهم على المساومة به. وهو ما يعني بصيغة أخرى سقوط العالم الإيراني-الشيعي الذي تحاول بناءه بالتأسيس على ما يجري في المشرق العربي.

في المقابل فإنّ سقوط الأسد يعني تراجع النفوذ الروسي في الشرق الأوسط إلى أدنى حدوده، أو إلى ما قبل قيام الاتحاد السوفييتي؛ فسورية هي آخر تلك الدول التي ما تزال موسكو تمارس تأثيراً فعالاً فيها.

حيث قاربت روسيا الثورة السورية من منظور جيوستراتيجي بحت، إذ لا ترى روسيا في منطقة الشرق الأوسط مكاناً لتعظيم مصلحتها وأمنها القومي أكثر ما تراه في محيطها الإقليمي، ولاسيما بعض دول آسيا الوسطى. لكنها تعدّ سورية من المناطق ذات الحساسية بالنسبة إليها، فهي ترى في موقعها الجيوسياسي موطئ قدم على شواطئ المتوسط، يتيح منفذاً لأسطولها البحري في البحر الأسود في قاعدة “سيفاستوبول” إلى مياه البحر المتوسط. بيد أنّ موقفها في سورية جاء ضمن معطيات تتعدى هذا التفسير المبسط، ويتعلق بانكفاء الولايات المتحدة عن التدخل المباشر ونزوع روسيا إلى استغلال هذا الانكفاء لتمنح نفسها دوراً مقابلاً للاستراتيجية الأمريكية، من هنا جاءت محاولة بوتين نفخ الحياة في سياسات الدولة العظمى بتوجهات ذات بعد دولي خارج محطيها الإقليمي (13).

أما إيران، فقد تعاملت مع الثورات العربية بما يلائم مصالحها الوطنية، وتحالفاتها الإقلميية، وبدا الدور الإيراني خلال الثورات العربية في تراجع كبير، خاصة بعد الموقف العدائي من الثورة السورية، ونزوع طهران إلى إنتاج تحالفات تعتمد فقط على التقاطعات المذهبية، ولاسيما في العراق، حيث تركز الحكم في العراق بيد سلطة مدنية ديكتاتورية تظهر نهجاً طائفياً وإقصائياً في الداخل العراقي، وفي مستويات تفاعلها مع النظام الإقليمي العربي (14).

وعلى غرار كافة الملفات الأخرى في العلاقات الإيرانية-الروسية، فإن ملف الثورات العربية عاد ليشكل عامل افتراق آخر بين الطرفين، فمع مناهضة إيران لعزل الرئيس المصري السابق محمد مرسي وتياره السياسي، إلا أنّ موسكو وجدت في التقارب مع وزير الدفاع المصري عبد الفتاح السيسي مجالاً للاستعاضة عما فاتها ويفوتها في الشرق الأوسط، عبر تقارب من خلال دعم سياسي وصفقات تسليح ما تزال محدودة، ومرتبطة هي الأخرى بدور الولايات المتحدة في المنطقة، وبميزان القوى شرق الأوسطية.

سابعاً- أثر العلاقات الإيرانية-الروسية في الأمن القومي العربي:

رغم إشراف روسيا على تطوير برنامج إيران النووي، واعتبارها المصدر الرئيس لمشتريات السلاح الإيراني، إلا أنّ تلك الصفقات لا يمكن لها أن تخرج عن ضوابط محددة تلتزم بها روسيا، سواء لناحية الخشية المستقبلية من تحول إيران إلى جارٍ ندٍ نووي، أو معادٍ لتوجهات موسكو في الأقاليم المتجاورة بين الدولتين، أو لناحية التوازنات الدولية والعلاقات مع دول أوروبا والولايات والمتحدة، عدا عن حرص موسكو كما الولايات المتحدة على أمن إسرائيل في المنطقة، وخاصة أنّ اللوبي اليهودي في موسكو من أنشط اللوبيات اليهودية حول العالم.

ومن ذلك، لا تسعى روسيا إلى إحداث انقلاب استراتيجي في معادلات الأمن في المنطقة العربية عامة، وفي الخليج العربي خاصة، إذ تربطها في المقابل علاقات تجارية واسعة مع دول الخليج العربي، لا يمكن التضحية بها، لصالح مزيد من عمليات دعم إيران عسكرياً.

فمن غير المتصور أن يؤدى التعاون العسكري الروسي-الإيراني إلى تغيّر جذري في التوازن الاستراتيجي في منطقة الخليج العربي، لعدة اعتبارات (15):

أولها: أنّ روسيا لا تزود إيران بأية أسلحة هجومية، وإنما بأسلحة دفاعية لا تؤثر على ميزان القوى الإقليمي. وقد أكد الرئيس الروسي بوتين هذا: “إنّ روسيا ستمضي قدماً في بيع أسلحة دفاعية لإيران، وإنّ لإيران الحق في ضمان قدراتها الدفاعية وأمنها، وإنّ التعاون العسكري بينهما هو مجرد تعاون بين شريكين ولا يستهدف طرفاً ثالثاً، وإنّه لخدمة أهداف دفاعية بحتة”.

ثانيها: أنّ التوازن الاستراتيجي في المنطقة يجب أن يأخذ في الاعتبار الترسانة العسكرية الأمريكية الضخمة في منطقة الخليج العربي، والتي لا قبل لإيران بها، ولا يمكن لهذه الأخيرة التوازن معها، مهما عززت من قدراتها العسكرية.

ثالثها: أنّ موسكو تنظر إلى التعاون العسكري ومبيعات الأسلحة، سواء لإيران أو غيرها من دول العالم، نظرة اقتصادية بحتة. وتسعى روسيا إلى تنشيط صادراتها من الأسلحة، ليس انطلاقاً من اعتبارات سياسية أو أيديولوجية، ولكن نظراً لما تمثله عوائدها من مورد مهم للدخل القومي. وقد أبدت روسيا استعداداً كاملاً ورغبة شديدة في بيع منظومات متقدمة من الأسلحة والمعدات العسكرية لدول الخليج العربي وغيرها من الدول العربية، ودون أيّة قيود سياسية.

خاتمة:

تم العمل من قبل إيران وحلفائها في المنطقة، على تضخيم إسنادها الاستراتيجي، بإظهار علاقتها مع روسيا، باعتبارها علاقات تحالف استراتيجي، توفر لها وحدها حماية كاملة في منطقة الشرق الأوسط، وتُحدِث خللاً في ميزان القوة في منطقة الخليج العربي، لصالح تفوق إيران المطلق.

غير أنّ مجريات العلاقات البينية بين الطرفين (كما وضحت الدراسة) أكدت على تأطير تلك العلاقات ضمن فهم المصالح المتبادلة الحذرة من كل جانب تجاه الجانب الآخر، وخاصة أنّ تاريخ هذه العلاقات لا يشجع على مثل ما يتم تصويره.

وقد استفادت إيران من تلك العلاقات عبر عملية استقواء محدود، كان سببه الأكبر غياب الفاعلية العربية في عدة مواقع، منها العراق وسورية ولبنان، دون أن يكون هذا الاستقواء مطلقاً، إذ كثيراً ما توتر العلاقات الإيرانية مع روسيا، حول الملفات المشتركة بينهما، ومنها الملف النووي، وقضية صفقات السلاح، أو في الملفات الإقليمية المشتركة.

في المقابل، استطاعت روسيا أن تجد لها في إيران، كما في سورية، بيئة حاضنة لإعادة تنشيط سياستها الخارجية على مستوى النظام الدولي، وهو ما أوجد لها بعض مجالات المناورة الاستراتيجية، في حال انكفاء الولايات المتحدة عن تلك المناطق.

ويبقى التطلع الروسي الأكبر، إلى إحداث اختراقات أكثر اتساعاً، سواء من خلال دول الخليج العربي أو مصر، حيث تشكل لها مجالات مناورة أوسع بكثير مما تملكه في إيران وسورية، غير أنّها تبقى ملتزمة بالتوازن الدولي في الشرق الأوسط.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

نقلاً عن مركز المزماة للدراسات والبحوث

مراجع:

(1) فرح الزمان أبو شعير، “العلاقات الإيرانية-الروسية: شراكة حذرة تميز حلف الضرورة”، مركز الجزيرة للدراسات، 7/10/2013:

http://studies.aljazeera.net/reports/2013/10/201310710612251555.htm

(2) المرجع السابق.

(3) إيلينا دونييفا، “العلاقات السياسية الروسية-الإيرانية في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين”، 13/2/2013: http://www.khayaralmoukawama.com/DETAILS.ASP?id=2775&param=NEWS

(4) فرح الزمان أبو شعير، مرجع سابق.

(5) نورهان الشيخ، “التعاون الاستراتيجي الروسي-الإيراني: الأبعاد والتداعيات”، الأهرام الرقمي، 1/5/2010: http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?Serial=146000&eid=1538

(6) “مساعد الرئيس الروسي: لا حل عسكريًا للقضية النووية الإيرانية”، موقع روسيا اليوم، 12 سبتمبر/أيلول 2013: http://arabic.rt.com/news/627165/ 

(7) نورهان الشيخ، مرجع سابق.

(8) نيكولاي كوزهانوف، “علاقات روسيا مع إيران .. حوار من دون التزامات”، حزيران/يونيو 2012، تحليل السياسات، معهد واشنطن:

https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/russian-relations-with-iran-dialogue-without-commitments

(9) المرجع السابق.

(10) إيلينا دونييفا، مرجع سابق.

(11) المرجع السابق.

(12) نيكولاي كوزهانوف، مرجع سابق.

(13) “التوازنات والتفاعلات الجيوستراتيجية والثورات العربية”، تحليل سياسات (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، نيسان/إبريل 2012)، ص 14.

(14) المرجع السابق، ص 17.

(15) نورهان الشيخ، مرجع سابق.

الوسم : إيرانروسيا

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق