أزمة الهوية في الأحواز: ما بين الفهم والجهل

ما يميز هوية الشعوب في كل برهة تاريخية هو مدى تعلقها بقيم الهوية التي تحاول تلك الشعوب التمسك بها لتجد لها مكانا يمكن لها أن تعرف نفسها في هذا العالم الفسيح.

إن وسائل التواصل والثورة المعلوماتية في نهاية القرن العشرين قد غيرت الكثير من القيم وحتى التابوهات الهوياتية مما جعلت من الصعب اليوم إيجاد تعريف دقيق تكون فيه دلالة واضحة لهوية الشعوب لاسيما الشعوب العربية. ولكن باستثاء هذا يمكن لنا أن ندرس التراكمات التاريخية التي ساهمت في تكوين هوية الفرد الأحوازي أولاً والمجتمع الأحوازي ثانياً.

المسيرة الطبيعية التي كانت تبني شخصية الفرد الأحوازي وهويته السياسية والاجتماعية قد انحرفت في وقتٍ مبكرٍ جداً جراء الاحتلال الفارسي للأحواز مما سبب إيقاف التحول والنمو الطبيعي للشعب الأحوازي وحصره في زاوية تاريخية ضيقة وسط جهل تام بالتعاريف الحديثة لمفهوم الدولة والاحتلال والمواطنة. ما كان يميز رضا بهلوي وجيوشه في تلك الفترة أنهم كانوا يعون تماما الهدف من احتلال الأحواز وكانوا مدركين تماما لأهمية بناء الدولة الإيرانية. بينما في تلك البرهة التاريخية كان يصعب على الأحوازيين تعريف الاحتلال وفهم ماهيته وهذا الأمر أفسح مجالا كبيرا لسياسات التفريس التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة في الأحواز وبالتالي هذا الفراغ السياسي والتخلف الفكري قد امتلأ بسياسات الغزاة لتمرير مشروعهم لبناء الدولة الإيرانية الوطنية.

الفضاء القبلي ونمط الحياة التقليدية في الأحواز حافظت وبشكل كبير على الموروث الاجتماعي والثقافي العربي عند الأحوازيين بشكل عفوي خصوصا وأن القبيلة كانت توفر ملاذا آمنا لمنتسبيها وهذا كان من اهم البدائل لسلطة الدولة وتشريعاتها التي حاولت السلطات أن تفرضها آنذاك. طبعا لا يمكننا أن نغض الطرف عن التماس شاه إيران محمد رضا بهلوي رؤساء القبائل ورجال الدين بعد الانقلاب العسكري على حكومة مصدق والتي حاول فيها أن يقوي رصيده في الأطراف وبين رجال الدين بعد أن فقده في المركز. أحوازياً كان التعامل مع كل هذه التحولات والسياسات تعاملاً منطلقاً من اعتبار الحكومة وسيلة لتصريف الأعمال وتسيير الحياة العامة في المدن وأما في الأرياف فلا تكاد توجد أي علامات تدل على ارتباط الأحوازيين بالحكومة ولا بالدولة. لطالما اعتبرت الحكومة ككائن دخيل ومخيف يجب تجنبه والتعامل معه بحذر.

أدى اندلاع الثورة في إيران وانضمام الكثيرين لصفوف هذه الثورة إلى نشوب حالة من الصحوة لدى الأحوازيين فيما يتعلق بحقوقهم المسلوبة متأثرين بذلك بخطابات رجال الدين مثل الشيخ الخاقاني وغيره من الرجالات المعروفة آنذاك. إضافة إلى ذلك كانت الحياة المدنية في مدينة المحمرة وارتفاع مستوى التعليم عند الأحوازيين ساهما وبشكل كبير بارتفاع المستوى المعرفي لدى الأحوازيين في تلك الفترة. فقد ساهم ذلك الوعي المتنامي بانضمام الشباب الأحوازيين إلى الحركات التحررية والخطاب القومي في تلك الفترة. إلا أنها كانت لا تزال هشة وغير واضحة المعالم فقيم الدولة الإيرانية المرسخة كانت لا تزال بارزة حتى في مطالبات النخب الأحوازية آنذاك وكأنما الكثيرون لم يكونوا يملكون تصوراً ذاتياً عن مفهوم التحرر والاستقلال السياسي والسيادي في الأحواز. طبعا هذا كان نتاجا طبيعياً لهيمنة الدولة الإيرانية على الفكر الأحوازي.

 كانت فترة الحرب الإيرانية العراقية نقطة مفصلية ومنعطفاً تاريخياً هاماً مر به الشعب الأحوازي باعتباره المتضرر الأول من تلك الحرب التي طال أمدها إلى ثمان سنوات. إضافة إلى الأضرار الاقتصادية والبيئية لتلك الحرب كانت الأضرار الاجتماعية جسيمة جداً ولم يتمكن الأحوازيين الى اليوم التخلص من آثارها السلبية في الحياة العامة. لعل أبرز تلك الأضرار كانت النزوح الجماعي لسكان الأرياف المتضررة من الحرب والسكن في ضواحي المدن التي كانت ولا تزال تفتقد أدنى مستويات الخدمات الاجتماعية والرفاهية. فعند مفارقة الناس لبيئتهم الأم فقدوا أيضا معها إمكانيتهم على الاستمرار بالحياة التي اعتادوها في الريف مثل الزراعة والصيد والرعي مما أدى إلى انتشار البطالة متبوعة بالإدمان وارتفاع مستوى الجرائم في تلك المناطق فمن تمكن منهم من أن يبتعد عن تلك البيئة التهمته آلة التفريس في المدينة وهذا أدى إلى انخفاض مستويات الثقة بالنفس عند الأحوازيين مقابل الفارسي (المتحضر والمدني) فنجد كثيراً من الأحوازيين تأثروا بنمط الحياة الفارسية في محاولة منهم للخلاص من الفقر والحرمان في ضواحي المدن. خصوصا وأن السلطة دائما ما كانت تروج نمط الحياة الفارسية في كل مراحل الحياة فنجد هذا الترويج في المدارس والمسارح وكل مكان. (كلنا نذكر عبود وجاسم باعتبارهم أشخاصا عربا مساكين لا يتقنون الفارسية ودائما ما تقع لهم المشاكل بسبب عدم إتقانهم للفارسية ولنمط الحياة الفارسية).

بداية فترة التسعينات من القرن الماضي كان قد وصل انخفاض مستوى الاعتزاز والثقة بالنفس أمام الفارسي إلى ذروته. ولكن في المقابل أدى التماثل والتشبه بالنمط الحياة (المدنية) إلى بزوغ نجم جيل جديد من الأحوازيين المتعلمين الذين دخلوا الجامعات وانفتحت أمامهم آفاق جديدة خصوصاً فيما يتعلق بالهوية مستمدين أفكارهم التنويرية من مفكرين عرب وعالميين وحتى فرس. فأصبح الجابري وأفكاره وأركون وسارتر وغيرهم حديث الأحوازيين من المتعلمين عند لقاءاتهم. ترابطت في هذه البرهة من الزمن مكونات الهوية الأحوازية ونضجت لتخرج من رحم الأحواز بعد مخاض طويل فانفجر الوعي القومي في الأحواز في المناطق الأكثر حرماناً من المدينة فكان الحماس المتنامي عند الشباب الأحوازي ينذر باقتراب ثورة على كافة المستويات فكانت في تلك الحقبة خيط الترابط بين السلطة والشعب هش جداً وبدأت مفاهيم جديدة تجد لها مكانا بين الأحوازيين (الشعب – الاحتلال- الهوية- التراث- المثقف) هذه المفاهيم التي بدت باهتة وغير واضحة في الربع الأول من القرن العشرين أصبحت جلية مع طلوع فجر القرن الواحد والعشرين.

لا يخفى على أحد أن الخطاب القومي في الأحواز قد تشكل نتاجاً لمنعطفات تاريخية مهمة ساهمت في بنائه وتشكيله ونضجه كظهور الفكر القومي العربي الناصري ومن ثم فترة الثورة وما بعدها وأيضا الحرب الإيرانية العراقية وما صاحبتها من أحداث أثرت بشكل مباشر وغير مباشر في بناء منظومة الوعي لدى الأحوازيين.

لا أنكر أن المناخ السياسي في فترة ما تعرف بالإصلاحات أتاحت المجال للكثير من القوى الفاعلة في الأحواز بالنهوض نحو ترسيخ القضية الأحوازية لتتغير ملامحها النخبوية وتستبدل بأخرى أكثر تلامساً مع الشارع الأحوازي إلا أنني اعتقد أن تلك الفترة أيضاً رسخت مفاهيم جديدة لم يكن الشعب الأحوازي قد أعارها انتباهاً من قبل. تلك المفاهيم وتراكماتها بالرغم من حداثتها ولّدت إشكالية هوياتية عميقة في منظومة الوعي الأحوازي.

مفاهيم مثل المواطنة والوئام وإمكانية نيل الحقوق عبر الطرق الديمقراطية مثل الانتخابات كانت من أهم وأبرز إفرازات تلك المرحلة التي ما زالت تخيم على الفضاء السياسي الأحوازي سواء على المستوى النخبوي أو العام.

بلا أدنى شك، إن الكثير من معاني القضية الأحوازية هي وليدة تلك الفترة ولكن في المقابل الكثير من العاهات السياسية متأتية أيضاً من تلك الفترة.

أعاد الخطاب الإصلاحي الجديد في إيران تعريف مفاهيم جديدة مثل مفهوم المواطنة ومفهوم الحرية وغيرها من المفاهيم التي اتسمت بها تلك الفترة وتباعاً لذلك قام الإصلاحيون العرب (تحديداً حزب الوفاق الإسلامي) في الأحواز بإعادة تعريف العلاقة بين الأحوازي والسلطة بمنهج جديد لم يكن الفرد والمجتمع الأحوازي قد مارسوه من قبل. فجاء خطاب الوفاق بشقيه التقدمي والتقليدي ليعزّز مفهوم المواطنة (بمعناها الإيراني) في أوساط المجتمع الأحوازي الذي لم يكن قد تعرّف على هذا المفهوم من قبل باعتباره لم يشعر بارتباط فعلي وحقيقي مع سلطة المركز. فطرح الإصلاحيون العرب منهجاً جديداً عرّفوا من خلاله العلاقة التي تربط الأحوازيين مع السلطة في المركز. طبعاً لست بصدد مناقشة مدى تعمّد الإصلاحيين العرب في ترسيخ هذه المفاهيم الجديدة ولكن هذا الخطاب السياسي الجديد كان يطرح شقاً جديداً من تعريف الهوية القومية وكان يعتقد أن المطالبات السياسية والقومية يجب أن تتحول إلى مطالبات ثقافية وكان يعمل أيضاً وبشدة على تكوين رؤية جديدة تفرغ المطالبات من محتواها السياسي لتستبدل بمطالبات حقوقية.

معرفياً لم يكن هذا الخطاب خطاباً تأسيسياً باعتباره أحد تجليات إرادة المركز وإلى جانب ذلك كان يفتقد إلى الفاعلية التاريخية باعتباره لم يكن مرتبطاً بشكل حضاري ولا بشكل معرفي مع المجتمع المستهدف (المجتمع الأحوازي). فعند تأسيس الخطاب السياسي لابد أن يكون هذا الخطاب يعبر عادة عن الرصيد التاريخي للشعب، ويستمد منه الطاقة المتجددة اللازمة للحفاظ على توازنه، وقدرته على تحمل الأمانة التاريخية، وتبليغها إلى الأجيال الصاعدة.

حتى نكون أكثر دقة في طرح الموضوع، إن الخطاب السياسي الجديد (الإصلاحي العربي) المتمثل بالمطالبة بالحقوق المدنية والسياسية عبر قنوات السلطة لم يكن قد نشأ من بطن هذه المطالبات السياسية والحاجة لها بل إنه تشكل ضمن باراديغم (إطار نظري) شامل كان قد شكله الإصلاحيين آنذاك في طهران ومن ثم قاموا بمصادرته إلى الأطراف. ففي لقاء لجاسم شديدزاده أمين عام حزب الوفاق مع وكالة أنباء إيسنا الإيرانية بتاريخ 2 فبراير 2003 يؤكد شديدزاده، بأن حزب الوفاق هو وليد الفكر الإصلاحي في إيران ويربط الوفاق بشكل جذري بالحركة الإصلاحية من حيث الأصول والمبادئ الفكرية.

ولكن أيضا في الفترة التي صاحبت تشكيل حزب الوفاق الإسلامي كان الانفتاح الهامشي الذي شمل كل جغرافية إيران آنذاك قد ساعد على بروز التيارات القومية وانبعاث الروح القومية من جديد لدى الأحوازيين الذين قد همشوا وقمعوا إبان حكومة رفسنجاني وخامنئي قبلها. لذلك لا يمكن اعتبار الخطاب الإصلاحي المتمثل بالوفاق في الأحواز عاملاً اساسياً في نهوض الوعي القومي في الأحواز. فإن الخطاب القومي وبالرغم من احتكاكه الشديد مع الخطاب الإصلاحي إلا أنه حاول جاهداً أن يحافظ على استقلاليته الفكرية والانتمائية وسعى مسرعاً لتعريف ذاته مقابل الآخر (السلطة) وفي المقابل حاول أصحاب الخطاب الإصلاحي في الأحواز أن يحصروا هذا الآخر المتمثل بالسلطة بكل تشكيلاتها وأجنحتها في الأصوليين واليمينين.

خالد الموسوي

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق