أبعد من الحزم: بنية التحالف وضرورات المأسسة

شهدت مرحلة ما بعد الحرب الباردة عدّة تحالفاتٍ دوليةٍ لمواجهة أزماتٍ تهدّد الأمن والسلم الدوليّين، كانت جميعها تحالفاتٍ مؤقّتةً مرتبطةً بالحدث المؤسِّس لها، وفي إطارٍ زمنيٍّ محدود، على خلاف التكتّلات التحالفيّة التي كانت فترة الحرب الباردة، حيث أفرزت أبرز حلفين دوليّين حينها: حلف الناتو، وحلف وراسو الذي انتهى بسقوط الاتحاد السوفييتي.

وقد افتُتِحت مرحلة ما بعد الحرب الباردة في منطقتنا من خلال تحالف عاصفة الصحراء، إبّان احتلال العراق للكويت 1990-1991، بقيادة الولايات المتحدة بشكلٍ رئيس، فيما شكّل الحضور العربيّ فيها، حضوراً لوجستيّاً إسناديّاً، وقدّم لها الشرعية المطلوبة لإنجاز مهمّة تحرير الكويت.

فيما شهدت الفترات اللاحقة عدّة تحالفاتٍ لذات الأسباب، وبذات الأدوات، وأهمّها الحلف الغربيّ الموجّه ليوغسلافيا، والتحالف الدولي الذي أطلقه بوش الابن للحرب على الإرهاب، والتحالف الدولي إبّان الثورة الليبية، ثمّ التحالف الأحدث ضدّ تنظيم داعش، أو الحرب الثانيّة على الإرهاب.

في جميع هذه التحالفات، كان دور العرب فيها دوراً إسناديّاً وليس محوريّاً، أي إنّها لم تُنشَئ بمبادرةٍ عربية، أو تحت قيادةٍ عربية، أو حتّى لتحقيق أهدافٍ عربيّةٍ منفصلةٍ عن مصالح القوى الدولية. إذ أدّت التحالفات السابقة لفرض نمطٍ من مصالح أصحابها على مسار الحدث السياسيّ في المنطقة.

فيما تأتي عاصفة الحزم كأوّل تحالفٍ عربيٍّ-عربيّ منذ حرب عام 1973، من حيث قرار الإنشاء، والقيادة والأهداف، بل هو أوّل تحالفٍ في تاريخ المنطقة، تُنشِئه المجموعة الخليجيّة وتقوده، وتحدِّد أهداف الحملة العسكريّة فيه، في مواجهة القوة الإيرانية الممتدّة على مساحاتٍ واسعةٍ من العالم العربي. بما يشكِّل متغيّراً رئيساً في مسار الأحداث شرق الأوسطية، من حيث بروز الفاعل الخليجي، كقوةٍ عسكريةٍ فاعلةٍ خارج الحدود. ففيما اكتفى الفاعل الخليجي سابقاً بالإطار الخليجي (الذاتي) عسكريّاً (الكويت 1991، الحدود اليمنية-السعودية 2008-2009، البحرين 2011)، تحوّل من حالة الدفاع عن الذات ضمن الحدود، إلى حالة الدفاع عن الذات خارجها، ومنه إلى حالة الهجوم على الخصم.

وهنا يبرز التساؤل حول مقوّمات هذا التحالف، وتوقيته؟

إنّ التحوّل إلى الفعل العسكري خارج الحدود يتطلّب في الأساس جملة عوامل قوةٍ تمتلكها الدولة، وتؤهِّلها لمثل هذا الفعل، وخاصّةً أنّ أيّ فعلٍ عسكريٍّ خارجيٍّ سيتواجه حتماً مع مصالح دولٍ إقليميةٍ أو دوليةٍ أخرى، قد تهدِّد بتحويل هذا الفعل إلى حربٍ بين أطراف دولية، وعليه تكون حسابات أيّ عملٍ عسكريٍّ أكثر توخياً لحجم المصالح والقوّة التي يتمتّع بها أطرافه، وفق مقارنةٍ عقلانيةٍ مصلحية. كما أنّ التحوّل إلى هذا النمط من السلوك العسكري (الخارجي) يعني تحويلاً لعناصر القوة التي تمتلكها الدولة إلى خارج حدودها لتعزيز مصالحها أو حماية أمنها، وإعلاناً عن ذاتها كلاعبٍ عسكريٍّ في الساحة الدولية.

وكثيرةٌ هي العوامل التي شكّلت هذا التغيير في التوجّه السياسيّ والعسكريّ الخليجيّ منذ عام 1990، إذ أتمّت منظومة التعاون الخليجي (خلال ربع قرن) مهمّة بناء الدولة واستكمال بناها التحتية، حتى غدت بعض دولها (الإمارات وقطر مثلاً) تنافس كبرى الدول في المجال التنموي والاقتصادي والمجتمعي. وبلغ مجموع الدخل القومي لدول المنظومة عام 2011، قرابة 1388900 مليون دولار.

شكل رقم (1)

الدخل القومي والفردي لدول الخليج العربي لعام 2011

الدولةالدخل القومي (مليون دولار)الدخل الفردي
السعودية68770024400
الإمارات العربية المتحدة25650047700
الكويت15350041700
البحرين3130027700
قطر17490098900
عمان8500027600
المجموع1388900

 

وتمتلك منظومة الدول هذه، أبرز الأدوات الاقتصادية العالمية المعاصرة، لناحية سيطرتها على قرابة 36% من المخزون النفطي العالمي، و22% من مخزون الغاز العالمي. بما يؤهِّلها للعب أدوارٍ اقتصاديةٍ عالمية، لعقودٍ مقبلة، تزداد أهميةً مع الزمن، عدا عن تصدُّرها صناديق السيادة العالمية.

معزِزةً بذلك أمنها الاقتصادي، لتتحوّل منه إلى تعزيز أمنها العسكري، من خلال مشترياتٍ عسكريةٍ صُنِّفت في أعلى قائمة المشتريات الدولية، وهو ما كان يعني بالضرورة تحوّل هذه المشتريات إلى فعلٍ عسكريٍ يعزِّز مصالح هذه الدول في محيطها الإقليمي، وفي مواجهة خصومها. حيث بلغت المشتريات العسكرية الخليجية في الفترة 2004-2007 قرابة (22600) مليون دولار، مقابل 900 مليون دولار مشتريات إيران في ذات الفترة، أي بمعدل أكثر من 25 ضعفاً. في حين بلغت في الفترة 2008-2011 المشتريات العسكرية الخليجية (15900) مليون دولار، مقابل 200 مليون دولار مشتريات إيران في ذات الفترة، أي بمعدل أكثر من 80 ضعفاً.

شكل رقم (2)

المشتريات العسكرية لدول الخليج العربي واليمن وإيران

hazem11

كما عملت على بناء جيوشها الوطنية، التي بلغت عام 2011، ما مجموعه 362600 جندياً كقوّاتٍ فاعلةٍ (عدا عن قوّات الاحتياط، والقوّات شبه العسكرية). مع احتمالية ارتفاع هذه الرقم في المستقبل المنظور، نتيجة توجّه دول المنطقة إلى إقرار منظومة التجنيد الإلزامي لشبابها (الإمارات أقرّت ذلك)، ما سيشكِّل رافداً جديداً للقوات المسلحة الخليجية.

شكل رقم (3)

حجم القوات الفعالة في دول الخليج العربي

 hazem 21

 

يُضاف إلى ذلك التوجّه الخليجيّ في استثمار العوائد المالية، عسكرياً، من خلال استقطاب بعض كبريات الشركات المصنّعة للسلاح، والعمل على توطينها خليجياً، بما يخفِّف من العبء الاقتصادي والسياسي للمشتريات العسكرية. وكان قد سبق لنا أن استعرضنا من خلال مركز المزماة ومركز مستقبل الشرق عبر دراسةٍ من جزأين، مقارنةً بين المنظومتين العسكريتين الخليجية والإيرانية خلال السنوات الفائتة (*).

وكانت دول الخليج العربي قد أنجزت تحالفها السياسي منذ عام 1981، من خلال إطلاق مجلس التعاون لدول الخليج العربي، والذي أردفته بتحالفٍ عسكريٍ من خلال “قوات درع الجزيرة المشتركة” عام 1982، ومشاركته العسكرية الأولى في حرب الخليج الثاني 1991. كما كان له الدور الأبرز في حماية أمن مملكة البحرين إبان احتجاجات عام 2011 في مواجهة التدخل الإيراني. عدا عن جملة تحالفاتٍ مع القوى الدولية الغريبة كان لها دورٌ مهمٌّ في تعزيز الحضور السياسي والاقتصادي الخليجي في كافة المحافل الدولية.

ما سبق يؤكد أنّ تحالف عاصفة الحزم لم يكن مجرّد ردّة فعلٍ على انقلاب الميليشيات الحوثية على السلطة في اليمن، مدعومةً بتدخلٍ إيرانيٍّ يتّسع في العالم العربي، إنّما شكّل بداية تحوّلٍ منهجيٍّ في السلوك الخليجيّ تجاه إقليمه، من حالة المراقبة والدفاع عن الذات بالاستناد إلى التحالفات الدولية، إلى حالة الفعالية وحماية المصالح. وهو نهجٌ هنا، بمعنى أنّه سيتحول إلى سياسةٍ إقليميّةٍ جديدة، تعلن عن بروز فاعل آخر (بالإضافة إلى إيران وتركيا) متحكِّمٍ بجزء من مسار الحدث شرق الأوسطي، قبل أن يتحول إلى لاعب رئيس في كافّة مجرياته. وهو ما يُعوَّل عليه عربيّاً بالأخص، بعد خروج أو إنهاك أو تفكّك القوى العربية الأخرى (سورية والعراق)، وفقدانها قدرتها التنافسية والعملياتية في المنطقة (مصر).

لكن ما هي القدرة العملياتية العسكرية لهذا التحالف؟

في استعراضٍ لأبرز ما تمتلكه دول التحالف الرئيسة من قدرات عسكرية، تبرز ترسانة تمثّل تكتّلاً عسكرياً منافساً على المستوى الدولي، بل يعدّ أحد أكبر الجيوش الإقليمية. علماً أنّ هذه الإحصائيات التي قدمها مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية (CSIS) تعود لعام 2011 (شكل رقم 4)، حيث شهدت الترسانة العسكرية الخليجية تحديثاً كبيراً خلال السنوات اللاحقة لها، عدا عن غياب تحديد دقيق لبعض أنواع الأسلحة الخليجية. ورغم أنّ دولة عمان لم تشارك عسكرياً في تحالف عاصفة الحزم، إلّا أنّنا أدرجناها في حساب القوّات الخليجيّة، لأنّها تبقى جزءاً مهمّاً وأصيلاً منها. ولابدّ من التنويه هنا إلى أن السعودية على سبيل المثال قد استحصلت عم 2014 على صواريخ بعيدة المدى قادرةٍ على حمل رؤوسٍ نووية.

فيما أعلنت السعودية عقب مؤتمر كامب ديفيد هذا الشهر، أنّها انتقلت من مرحلة التهديد بالتحوّل إلى تطوير سلاح نووي، إلى الانتقال الجدّي بالتعاون مع باكستان لبناء قدراتٍ ذاتيةٍ لسلاحٍ نوويٍ سعوديٍ (الأول عربياً).

شكل رقم(4)

بعض ملامح الترسانة العسكرية الخليجية 2011

النوعالسعوديةالإماراتالكويتقطرالبحرينعمانالمجموع الكلي
مصروفات الجيش/الأمن لعام 2011 (مليون دولار)485009320462034601020672073640
عدد القوات العسكرية الفاعلة233500510001550011800820042600362600
عدد قوات الاحتياط2370023700
عدد القوات شبه العسكرية15500710011260440038260
دبابات القتال الرئيسة600 (بالإضافة إلى 260 قيد الشراء)471293 (بالإضافة إلى 75 قيد الشراء)301801172026
آليات مسلحة أخرى5168 (بما فيها 140 آلية بحرية مسلحة، بالإضافة إلى 850 آلية عسكرية قيد الشراء)1815813 (بالإضافة إلى 40 قيد الشراء)269453327 (بالإضافة إلى 9 قيد الشراء)9744
مدفعية ذاتية الدفع324221106 (بالإضافة إلى 18 قيد الشراء)288224803
مدفعية مقطورة158 (بالإضافة إلى 68 قيد الشراء)931236108475
قاذفات صواريخ متعددة60أكثر من 922749+192
الطائرات المقاتلة296193 (13 منها في الولايات المتحدة)66183954679
مروحيات مقاتلة1682852
طائرات استطلاع18826
طائرات شحن عسكرية1717
صواريخ أرض-جو18057675أكثر من 128+2084
سفن قتالية رئيسة171119
زوارق وطرادات حربية مسلحة بالصواريخ17141076660
زوارق حربية أخرى70 (بالإضافة إلى أكثر من 100 زورق صغير)8539145863429
سفن ألغام729
آليات برمائية16284110665
مروحيات (سلاح البحرية)461864

 

التحالف أبعد من الخليج العربي:

إنّ امتلاك تحالف عاصفة الحزم الشرعيّة الضرورية للتدخّل في اليمن، بطلبٍ من الرئيس اليمني، شكّل أساس التوجّه الخليجي العسكري، بغية إعادة الاستقرار والأمن إلى اليمن، ومنع الميليشيات الحوثية من الهيمنة على الدولة وتحويلها إلى مستعمرةٍ إيرانية. وهو ما شكّل دافعاً لعدّة دول (عربية في الأساس) لتكون جزءاً من الجهد العسكري الخليجي.

حيث شاركت في التحالف: 6 طائراتٍ مقاتلةٍ تابعةٍ لسلاح الجو الملكي الأردني، و6 مقاتلاتٍ تابعةٍ للقوات الجوية الملكية المغربية، و3 مقاتلاتٍ تابعة للقوات الجوية السودانية، و4 سفنٍ حربيةٍ تابعة للبحرية المصرية، إضافة إلى مشاركة البحرية الباكستانية. فيما قدمت الولايات المتحدة دعماً لوجستياً واستخباراتياً، وأرسلت السنغال نحو 2100 جندي، وحظيّ كذلك بتأييدٍ سياسيٍّ واسعٍ من قبل تركيا، مع إعلانها الرغبة في المشاركة في هذا التحالف، ما يشكِّل كسراً لحالة الخلاف الحاصل في العلاقات السعودية/الخليجية مع تركيا (بشأن ملف الإخوان والملف المصري). وهو ما حوّل التحالف من تحالفٍ خليجيٍ إلى تحالفٍ عربيٍ فإسلاميّ، يمتدّ من باكستان إلى السنغال عسكرياً، فيما يحظى بدعم سياسي على امتداد العالم. وخاصّةً أنّ عدّة دول قد أبدت رغبتها في المشاركة العسكرية أو أعلنت عن تأييدها سياسياً للجهد الخليجي.

وهو ما يخوِّل دول الخليج العربي، استغلال الحدث في تمتين العلاقات العسكرية-السياسية الإقليمية، والبحث في سبيل مأسسة هذا التحالف حتى يغدو تحالفاً إقليميا بطابع عربي إسلامي، قادرٍ على الدفاع عن الذات وفرض مصالحه على القوى الدولية. بحيث يتجاوز التحالف إطاره الزماني والجغرافي، على غرار حلف الناتو على سبيل المثال.

ما بعد الحزم في اليمن:

شكّلت العملية العسكرية الخليجية في اليمن، دافعاً لإعلاء المطالب العربية الموجَّهة إلى قيادة العمليات العسكرية، بغية توسيعها باتجاه بؤرٍ تشهد ذات المأساة اليمنية، وبالأخصّ سورية والعراق، حيث يسيطر الاحتلال الإيراني على مساحاتٍ واسعة منها. وإن كان من المبكر الحديث عن عملياتٍ عسكريةٍ خليجيةٍ-عربيةٍ في هذه المناطق، إلّا أّنه بات من الضروري تطوير مساحات العمل التي يشتغل عليها هذا التحالف، سواءً بشكله العسكري، أو من خلال توظيف المدخل العسكري في إحداث ضغوطاتٍ سياسيةٍ ترمي إلى تحقيق المصالح العربية في هذه الساحات.

غير أنّ توسيع الحزم باتجاه بيئاتٍ عربيةٍ أخرى، يتطلب في الأساس مأسسة التحالف على شاكلة التحالفات الدولية الكبرى (حلف الناتو)، وبناء هيكليّةٍ تنظيميّةٍ وإداريّة وقانونيّة له، ليغدو حلفاً عربياً-إسلامياً (شرق أوسطي) دائماً، مع تعريفٍ واضحٍ للتهديدات الأمنية لتتجاوز موضوع الميليشيات الإرهابية (داعش والميليشيات الشيعية)، إلى التهديدات التي تشكِّلها الدول الإقليمية وعلى رأسها (إيران وإسرائيل).

وتغدو التفاصيل في عملية مأسسة هذا التحالف كثيرة جداً، غير أنّه في حال توفر الإرادة السياسية، وإدراك ضرورة المأسسة تلك، فإنّ تجاوز المسائل الفنية يبقى أمراً قابل للتحقيق. خاصة أنّ البيئة العربية بالتحديد، وشرق الأوسطية بشكل أعمّ، غدت اليوم في أمس الحاجة لبناء هذه الهيكلية السياسية-العسكرية، وملء فراغ القوة المتراكم في المنطقة، بما يشكِّل رادعاً لكثير من الصراعات القائمة والمحتملة مستقبلاً، في ظلّ مطامع إقليمية ودولية تشتغل وفق فراغ القوة هذا.

عبد القادر نعناع

كاتب وباحث سوري

مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث

 

 

 

هوامش:

(*) للاطلاع على المقارنة بين المنظومتين العسكريتين الخليجية والإيرانية خلال السنوات الفائتة، انظر: جمال عبيدي وعبد القادر نعناع، “دراسة مقارنة في القدرات الصاروخية الإيرانية والخليجية (جزآن)”، مركز مستقبل الشرق للدراسات والبحوث.

الرسومات والجداول مبينة على المصدر التالي:

Anthony H. Cordesman, Robert M. Shelala & Omar Mohamed, The Gulf Military Balance: Volume III: The Gulf and the Arabian Peninsula (Lanham: Center for Strategic & International Studies CSIS, January 2014).

شارك هذا المقال

لا توجد تعليقات

أضف تعليق